بريطانيا.. غياب الاستراتيجيات

بهاء العوام

النقابات الصناعية في بريطانيا تشكو غياب الاستراتيجية الحكومية الواضحة لتطوير القطاع بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.

تقول إن حكومات حزب المحافظين منذ عهد بوريس جونسون وحتى ريشي سوناك، مرورا بليز تراس، لم تقدم رؤية واضحة لكيفية النهوض بالصناعة الوطنية بعد “بريكست”.

بعض قادة النقابات ذهبوا أبعد من ذلك، وقالوا إن الحكومة “قتلت” الصناعة الوطنية بسبب إهمالها بعد التداعيات الناتجة عن بريكست ووباء كورونا الذي أرهق اقتصاد الدولة صاحبة المركز السادس بين الاقتصاديات العالمية. قد يبدو في ذلك بعض المبالغة، ولكن الواقع ليس جيدا برأي أصحاب الاختصاص والمعرفة.

المعارضة العمالية أيضا تجلس في ذات قفص الاتهام عند محاكمة الساسة بشأن واقع الصناعة الوطنية في المملكة المتحدة. فالنقابات لا تجد في خطاب حزب العمال، زعيم المعارضة، أي استراتيجية واضحة لتطوير القطاع. وما يزيد الطين بلة كما يقال، أن كل استطلاعات الرأي تتوقع فوز “العمال” في انتخابات عام 2024.

بغض النظر عن المستقبل القريب أو البعيد، من يمسك بزمام الأمور منذ عام 2010 وحتى اليوم، هو حزب المحافظين. ومن طلبوا الخروج بكل جوارحهم عام 2016، وبذلوا من أجله كل غال ونفيس كما يقال، هم صقور الحزب ونواب في البرلمان الآن. وبالتالي هم يتحملون القسط الأكبر من اللوم والانتقاد في هذا الملف.

المشكلة هي أن الصناعة الوطنية ليست القطاع الوحيد الذي تضرر بفعل غياب الاستراتيجيات الحكومية أو ضبابيتها بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. لقد طالت الأزمة كل المجالات، وظهر شح العمالة والخطط والأدوات على كافة الأنشطة في البلاد. خاصة وأن الجائحة تلت “بريكست” مباشرة وضاعفت من تداعياته.

المطورون العقاريون، وهم من أكبر مصادر دعم الحزب الحاكم، يهددون بوقف تمويل برامج المحافظين الانتخابية بسبب ضبابية استراتيجية الحكومة إزاء المشاريع السكنية. وبلغة الأرقام قدم القطاع العقاري للمحافظين بين 2010 و2020، نحو 20٪ من إجمالي التبرعات التي غطت حملاتهم في استحقاقات عدة ومختلفة.

القطاع التجاري أيضا لا يعيش أحسن حالاته اليوم. حتى اتفاقيتي التجارة الحرة التي أبرمتهما الحكومة ودخلتا حيز التنفيذ قبل أيام مع أستراليا ونيوزيلندا، كانتا محط انتقاد بسبب أضرار مخبأة بين سطورهما، وضعف عائداتهما مقارنة بالخسارة التي وقت نتيجة مغادرة المملكة المتحدة للسوق الأوروبية الموحدة عام 2020.

عند احتساب معدلات التضخم القياسية، تكون المملكة المتحدة في عهد المحافظين، قد مرت بثلاث نوائب اقتصادية منذ نهاية عام 2019. كما عاشت خلال هذه الفترة أزمة المهاجرين عبر القوارب من السواحل الفرنسية، وعرفت البلاد 3 حكومات، وسلسلة فضائح لم تنتهِ حتى الآن، لقادة ونواب وساسة في الحزب الحاكم.

إضرابات القطاع العام التي تشهدها لندن منذ العام الماضي تدلل أيضا على سوء الأوضاع، وتشي بضرورة وجود استراتيجيات واضحة للنهوض بالمؤسسات الحكومية، ودعم القطاع الخاص. ولكن هل تملك الحكومة وضع هذه الاستراتيجيات، أم أن ما يعيشه العالم من أوضاع متقلبة سياسيا واقتصاديا، يحد من قدرتها؟

المقارنة بين المملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، حاضرة دائما في وسائل الإعلام المحلية ومراكز الدراسات. كيف كانت وأين باتت البلاد بين 2016 و2023، هو السؤال الأبرز الذي يقف وراء كل نقد يوجه لحزب المحافظين الذي لطالما عرف عنه مساندة أصحاب المال والأعمال في الدولة.

لم يفلح المحافظون في ترجمة أي من وعودهم الانتخابية إلى واقع ملموس يكافئ البريطانيين على منح الحزب أكثرية برلمانية مطلقة عام 2019. وبسبب هذا خسروا أكثر من ألف مقعد بلدي في الانتخابات المحلية مطلع مايو/أيا الماضي. وتقول استطلاعات الرأي أن الخسارة سوف تتكرر في الانتخابات العامة لعام 2024.

الجائحة وحرب أوكرانيا وارتفاع معدل التضخم عالميا، كلها عوامل مؤثرة في اضطراب خطط المحافظين بعد “بريكست”. ولكن الصراعات الداخلية وفضائح نواب وقادة الحزب، كانت أسبابا أيضا. وربما تكون وحدها معيار الحكم عليهم وتقييم أدائهم خلال ١٤ عاما، أي منذ عهد ديفيد كاميرون وحتى ولاية سوناك.

قائمة الاستراتيجيات المعلقة لحزب المحافظين طويلة. وفي ميزان إنجازات حكوماته الثلاث الأخيرة عندما تفتح صناديق الاقتراع في عام 2024، لن يحتسب أي مشروع قانون لم يتحول إلى تشريع، وأي اتفاقية لم ترَ النور، وأي إجراء لم يدخل حيز التنفيذ، وأي وعد انتخابي لم يتحقق بحجة الظروف الخارجية المتعثرة.

لن يشفع للمحافظين بعد انتهاء تفويضهم الانتخابي الحالي، أنصاف استراتيجيات لم تكتمل بسبب موقف أمريكي متعنت، أو رفض أوروبي للتعاون مع لندن في هذا الملف أو ذاك. كما لن ينقذهم تبرير خسارات الاقتصاد، أو تراجع الخدمات، أو تضخم أعداد المهاجرين بالحرب الروسية الأوكرانية أو التوتر مع الصين.

حتى في هذين الملفين لا تبدو الاستراتيجيات البريطانية نهائية. فالمراجعات الحكومية التي أجريت على السياسات الخارجية مطلع العام الجاري، تحذر من القطيعة مع الصين، وتقول إن الخصومة مع روسيا لا يجب أن تصل حد المواجهة المباشرة معها. ولكن هل سلوكيات لندن تعكس هذين الهدفين أم تسير خلافهما؟.

وزير الخارجية جيمس كليفرلي شجع أوكرانيا علنا على مهاجمة روسيا، ولندن زودت كييف بصواريخ بعيدة المدى. فرد نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري ميدفيديف بالقول إن “بريطانيا هي العدو الأبدي لبلاده، وأي مسؤول لها يسهّل الحرب في أوكرانيا قد يصبح هدفا عسكريا مشروعا للروس”.

على ضفة الصين، لا تكف بريطانيا عن تعزيز شراكاتها مع دول آسيا وأستراليا ونيوزيلندا بما يثير نقمة بكين. وبينما يزور قادة الاتحاد الأوروبي الرئيس شي جين بينغ، طلبا للعلاقات الجيدة معه. يقول سوناك على هامش قمة مجموعة السبع إن الصين تمثل أكبر التحديات التي تواجه الأمن والازدهار حول العالم.

في نهاية المطاف، يحتاج المحافظون لوضوح أكبر في استراتيجياتهم إزاء الملفات الداخلية والخارجية التي تهم البريطانيين وتجذب أصواتهم الانتخابية. المرأة الحديدية مارجريت تاتشر قالت يوما إن الاستحقاق هو جائزة الوفاء بالالتزام. وإن كان كذلك فعلا، فلا يجب أن ينتظر الحزب الأزرق كثيرا في استحقاق 2024.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى