بريكست: حكاية بيع الأوهام!

محمد قواص

لم يُصدّق عتاة الأوروبيين المطالبين بخروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي أن الاستفتاء في هذا الشأن في 23 يونيو 2016 سيأتي لصالح دعواتهم.

حتى أن نايجل فاراج، وهو من الشخصيات الشعبوية الكارهة لأوروبا، أقر مساء ذلك اليوم بخسارة الاستفتاء والوعد باستفتاء آخر، قبل أن يفاجأ فجر اليوم التالي بانقلاب النتائج. فاز البريكست بنسبة ضئيلة (52 بالمئة)، لكنها كانت كافية لإعلان طلاق المملكة المتحدة من النادي الأوروبي بعد عضوية تسولتها لندن ونالتها بصعوبة عام 1973.

تعالت لندن على الانضمام إلى النواة الأولى للمشروع الأوروبي عام 1951. كانت بريطانيا ما زالت تعتبر نفسها دولة عظمى “لا تغيب عنها الشمس”، ورفضت أن تكون جزءا من تجمع يفقدها بريقها الامبراطوري القديم. غير أن البلد عاش مراحل اقتصادية موجعة في خمسينيات القرن الماضي، بحيث نظر إلى “أوروبا” نظرة انتهازية، وراح يدق باب العضوية لعله يجد داخل التجمع الأوروبي ترياقا ينتشله من حاله الاقتصادي المتعثر.

قامت “أوروبا” وفق فكرة روّج لها الفرنسي روبير شومان. دافعت باريس عن الفكرة الأوروبية بصفتها الوحيدة القادرة على إرساء السلام في أوروبا. كان شارل ديغول مدافعا عن المشروع الأوروبي رافضا لدخول بريطانيا (الأطلسية) إلى قلب تجمع يريده مستقلا عن الولايات المتحدة معاندا لهيمنة واشنطن.

رفض ديغول دخول بريطانيا إلى المشروع الأوروبي. كان الرجل يتهم لندن بأنها مجرد لاعب أميركي في قلب القارة. وضع فيتو على طلبها، وأقفل باب أوروبا أمامها عامي 1961 و 1967، لأنها، وفق الزعيم الفرنسي، لا تملك الروح الأوروبية التي يمتلكها الأعضاء المؤسسون (فرنسا، ألمانيا الغربية، إيطاليا، بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ).

لم تدخل بريطانيا إلى النادي الأوروبي إلا بعد سنوات من مغادرة ديغول الحكم في بلاده ووفاته لاحقا (1970). كان ديغول على حق. بقيت بريطانيا أطلسية القلب والروح تنظر دائما صوب أميركا. تدللت لندن داخل الوعاء الأوروبي وتمتعت باستثناءات جعلتها خارج منطقتي اليورو والشنغن وخارج التزامات أخرى. ومع ذلك بقيت مسألة البقاء في “أوروبا” ملفا تجري المزايدة حوله بين يمين ويسار. تحاذق زعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون وقبل إجراء استفتاء عام 2016 في سعي لنيل دعم الحزب ووحدته. كان كاميرون كما استطلاعات الرأي يتوقعون استفتاء مؤيدا للبقاء، لكن النتيجة أتت صاعقة مخيبة أطاحت به من زعامة الحزب كما من الحياة السياسية في بلاده.

من صوّت للخروج من بريطانيا كان يتخيل أن الأمر يعيد للبلاد استقلالها وسيادتها الكاملة على نحو يخلصها من سلطة أوروبا وهيمنة بروكسل. دخلت بريطانيا إلى أوروبا مترنحة متصدعة متعثرة، نهلت النمو والتطور والتحديث، وحين اشتد عودها طلبت الطلاق. ومن يتأمل الاتفاق الأخير بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي يسهل عليه استنتاج كم الأكاذيب التي سيقت حول الاستقلال والسيادة.

صوتت اسكتلندا لصالح البقاء في الاتحاد الاوروبي بنسبة  62 بالمئة. رئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا ستورجون تشعر بالغبن من حرمان اسكتلندا من أوروبا، وباتت أكثر توقا لتنظيم استفتاء يخرج بلادها من المملكة المتحدة. ستبقى إيرلندا الشمالية، وفق الاتفاق، جزءا من السوق الأوروبي خاضعة لقوانينه. حتى حين حاولت حكومة بوريس جونسون التمرد على هذا المعطى، أتى الغضب هذه المرة من واشنطن. وجه الرئيس الأميركي المنتخب، ذي الأصول الإيرلندية، جو بايدن، تحذيرا إلى لندن من مغبة التلاعب بما يعبث باتفاق السلام هناك.

لم يعد للندن دور في تقرير سياسات الاتحاد الأوروبي. لن تحصل بريطانيا على الداتا الأوروبية الأمنية. حرم الاتفاق بريطانيا من امتيازات العضوية ومنع مركز لندن المالي من حرية تداول الخدمات المالية والمصرفية مع أوروبا. فرض الاتحاد على بريطانيا الالتزام الكامل بمعايير أوروبا في التجارة والتصنيع، كما منع الاتفاق بريطانيا من ممارسة سلوك وانتهاج قواعد من شأنها الانتاج بشكل منافس بكُلف أقل من تلك لدى الاتحاد الأوروبي.
لا تستطيع بريطانيا إلا أن تعترف بقوة 27 دولة وأهمية أسواق هذه الدول للاقتصاد البريطاني. قبل الإعلان عن إبرام الاتفاق، شاهد البريطانيون طوابير مرعبة من الشاحنات تقف على أبواب بلادهم. دفعت سلالة فيروس كورونا المكتشف في بريطانيا أوروبا لإقفال حدودها مع بريطانيا بضعة أيام. اكتشف البريطانيون أن هذا الكابوس الاستثنائي قد يصبح قاعدة في حال فشلوا في إبرام الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي.

غداة استفتاء 2016 اجتمع الأوروبيون على فكرة معاقبة بريطانيا على فعلتها ومنعها من أن تكون مثالا يحتذى من قبل أي عضو في الاتحاد. بعد أكثر من 4 سنوات، فهمت أوروبا أن من مصلحتها تدجين بريطانيا واستيعابها ومنعها من أن تصبح بلدا خصما منافسا على أبواب اتحادها. ينظر أنصار البقاء في بريطانيا بحزن إلى هذا المآل. وحدهم منظرو الخروج من أوروبا يبتسمون بخبث مبتهجين بقدرة لحظة تاريخية على إنجاحهم في بيع أحلام كشف الاتفاق مع الاتحاد أوروبي أنهم ارتكبوا نقيضها. صوت الصيادون البريطانيون بكثافة لصالح البريكست المفترض أن يعيد لهم المياه وثرواتها كاملة. خانهم الاتفاق وشعروا بطعنة في الظهر وبقوا يتأملون بحسرة سفن أوروبا تشاركهم ما تمنوه حقا حصريا لهم.

أطاح البريطانيون بوينستون تشرشل بعد أن قادهم إلى الانتصار في الحرب العالمية الثانية، وها هي آخر استطلاعات الرأي منذ أيام تتوقع في انتخابات 2024 أن يطاح ببوريس جونسون وأن يفقد حتى مقعده في دائرته الانتخابية. إذا صدقت الاستطلاعات فهي لعنة السياسة والتاريخ.

 

 

 

الأوبزرفر العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى