بوريس جونسون.. نجاة مخيفة

عبد العزيز الخميس

نجاة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من لائحة حجب الثقة من حزبه (حزب المحافظين)، الاثنين الماضي، لم تعن توقف مسلسل أزماته التي ستطبعُ، بلا شك، مستقبله السياسي، سواء داخل أروقة حزبه أو في العملية السياسية الإنجليزية برمتها.

المسافة الزمنية الفاصلة بين صعود بوريس جونسون إلى سدة رئاسة الوزراء في بريطانيا، في العام 2019، وبين مواجهته تصويتا لحجب الثقة الاثنين 6 يونيو الجاري، كانت مسافة مليئة بالتحديات السياسية والاقتصادية والصحية التي واجهتها حكومة جونسون، والتي نزل خلالها رئيس الوزراء من مرتبة الحائز على أغلبية ساحقة وإن كانت مفاجئة، إلى منحدر مواجهة نواب حزبه في تصويت محرج كان يمكن أن يؤدي إلى الإطاحة به واستبداله كزعيم محافظ ورئيس للوزراء.

كان السبب المعلن والظاهر من وراء الدعوة إلى عملية التصويت هو ما درجت الصحافة البريطانية إلى تسميته بـ”بارتي غيت”، أو فضيحة الحفلات الصاخبة التي خرقت تدابير الإغلاق زمن تفشي وباء كورونا في بريطانيا، لكن الأسباب العميقة تتجاوز ذلك السبب المباشر، وهي أسباب تتصل أساسا بارتفاع معدل التضخم بنسب غير مسبوقة لم تصلها بريطانيا منذ 40 عاما، زادته تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا عمقا وخطورة خاصة في مستوى تجلياتها على ارتفاع المواد الأساسية والوقود. تضخم هدد وعود جونسون السابقة بتحويل بريطانيا إلى اقتصاد بمهارات عالية وأجور مجزية.

لم تتحقق وعود جونسون بل واجه الاقتصاد البريطاني ارتفاعا خطيرا في أرقام التضخم (زيادات موجعة في الأسعار، وتضافر أزمة الطاقة المتفاقمة مع نقص العمالة والسلع نتيجة الخروج من الاتحاد الأوروبي فضلا عن تأثيرات وباء كورونا) تعمد جونسون التستر عليها في المؤتمر السنوي لحزب المحافظين الذي انعقد في مانشستر يوم 6 أكتوبر 2021.

جاءت “بارتي غيت” لتكون بمثابة القطرة التي أفاضت كأس صبر البريطانيين على جونسون، ولتعمق الاستياء العام من قيادة جونسون للحكومة، وكان لتراكم عثرات جونسون أثره البليغ على صورته لدى الشعب البريطاني، وداخل قاعدته الحزبية على حد السواء. على ذلك فإن قراءات سياسية كثيرة تعتبر أن أفول نجم بوريس جونسون سيقلل من فرص حزبه في الانتخابات المقبلة.

وفي عمق الحدث الأخير (نجاة جونسون من حجب الثقة) قضايا أخرى متداخلة تتصل بالهندسة الداخلية للحزب البريطاني الحاكم. يشارُ أولا إلى أن التصويت على حجب الثقة من جونسون الذي جرى على عجل الاثنين الماضي، صبَّ في مصلحة جونسون تبعا لأنه حرم الكثير من النواب، الذين عادوا لتوهم من دوائرهم الانتخابية بعد عطلة احتفالات اليوبيل البلاتيني لتولي الملكة إليزابيث الثانية العرش، من تكوين تكتلات يمكن أن تفضي إلى إسقاط زعيم الحزب ورئيس الحكومة.

وكان الكثير من النواب المحافظين أعلنوا أنهم كانوا يفضلون تأجيل التصويت على حجب الثقة إلى ما بعد إجراء الانتخابات الفرعية، لاختيار نواب جدد في ويكفيلد وتيفرتون، وهونيتون في 23 يونيو الجاري، وهو تأجيل كان يمكن أن يغير الكثير من النتائج والاستتباعات السياسية، لأنه لو خسر حزب المحافظين الدائرتين المشار إليهما لصالح العمال أو الليبراليين الديمقراطيين، فستزيد القناعة داخل المحافظين بأن جونسون يمثل عَقبة سياسية وانتخابية يتوجب إبعادها، وما يعني أيضا أن تصويت حجب الثقة كان يمكن أن يسير بنسق مختلف عما جرى الاثنين الماضي.

وتبعا لذلك كله، فإن “نجاة” جونسون الاثنين الماضي من حجب الثقة، تعتبر نتيجة لتسويات سياسية أكثر مما كونها تعبيرا صادقا عن مدى الرضا الذي يتمتع به جونسون سواء داخل حزبه أو لدى عموم البريطانيين.

وفي جانب آخر من المشهد السياسي البريطاني، تتوجبُ الإشارة إلى أن جونسون جاء إلى قيادة حزبه وإلى الحكم على خلفية استقالة تيريزا ماي في 7 يونيو 2019، رغم فوزها في تصويت بحجب الثقة في البرلمان دعت إليه المعارضة، وبعد أن صوت 117 نائبا من حزبها ضدها. لكن جونسون يستبعد أن يعلن استقالته من منصبه، ولن يطبق القاعدة السياسية البريطانية القديمة التي تعني أن أي تصويت بسحب الثقة يعني بالضرورة نهاية المسيرة السياسية لرئيس الحزب والحكومة، وهي قاعدة تاريخية سرت على مارغريت تاتشر وعلى تيريزا ماي. ولعل عدم “احترام” جونسون لهذه القاعدة عائد إلى وعيه بأن الكثير من النواب الذين يعارضونه يخشون، في الوقت نفسه، أي تغيير على رأس الحكومة والحزب، في ظرفية سياسية دقيقة تمر بها البلاد داخليا (مع ارتفاع التضخم وكلفة المعيشة) وخارجيا (في ظل آثار الحرب الروسية على أوكرانيا).

لم تكن نجاة جونسون من التصويت على سحب الثقة تعني سوى تأجيل للازمة السياسية التي تشق حزب المحافظين، والتي تجلت اليوم في مثول رئيس الحزب أمام تصويت بسحب الثقة، ولا شك أنها ستعني مستقبل اختبارات أخرى أكثر مرارة، لعل أهمها تضاؤل آمال الحزب في الفوز بالانتخابات القادمة. لم يفلح المعارضون لجونسون في سحب الثقة منه، لكن الأخير لم ينجح أيضا في تبديد التبرم الداخلي من أخطائه ومن أداء حكومته. المشكلة الكامنة في هذا الصدد أن المعارضة لا تبدو جاهزة لتقديم وصفات اقتصادية وسياسية ترضي الناخب البريطاني، وأن المحافظين سيواجهون صعوبات جمة في إيجاد بديل عن جونسون. هنا تبدو مواصلة جونسون مهامه على رأس الحكومة والحزب بمثابة الاضطرار السياسي الذي سيجبر المحافظون على اتخاذه.

لخص وليام هيغ، الزعيم المحافظ ووزير الخارجية البريطاني الأسبق، في عهد حكومة ديفيد كاميرون، أزمة جونسون بقوله “نجاة جونسون إثر فوزه بهامش ضئيل من الأصوات لا يُعدّ فوزاً، فهو لم ينتصر على فصيل منافس، ولم يتصد لمرشح بديل، بل تؤشر نتيجة التصويت إلى طريق مرهق من مزيد من أزمات الثقة. وعلى الرغم من نجاة جونسون من سحب الثقة، فإن الأضرار التي لحقت برئاسته للوزراء شديدة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى