تمرد «فاغنر»… طموحات شخصية وحسابات خاطئة

حسن أبو طالب

انتهى تمرد زعيم «فاغنر» سريعاً. الأسباب عديدة؛ حقن الدماء، تدخل الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، ضعف خطة اقتحام العاصمة موسكو، العفو الضمني عن مسلحي «فاغنر» الذين شاركوا في التمرد، إعطاء مزايا نسبية للذين لم يشاركوا في التمرد، وعود بتيسير عقود لهؤلاء مع الجيش الروسي، وأخيراً الاعتراف بفضل هؤلاء في المعارك الصعبة التي خاضوها نيابة عن الجيش الروسي في شرق أوكرانيا؛ خصوصاً باخموت. والأهم من كل ذلك توفير ملجأ بضمانات روسية لزعيم المنظمة يفغيني بريغوجين في بيلاروسيا، وإسقاط الجرائم الجنائية بحقه، فيما يشبه العفو المشروط، أو لنقل المصحوب بتقييد الحركة.

القصة لم تنتهِ بعد، هناك ذيول وتداعيات سوف تتكشف مع الأيام المقبلة. ما الذي سيفعله الرئيس بوتين مع بعض قادة الجيش الذين قد يتحملون مسؤولية ما حصل، رغم نهايته التي تبدو سعيدة نسبياً، وما هو مصير منظمة «فاغنر» ذاتها ورئيسها المُقيد الحركة، وكيف ستتأثر أدوارها الخارجية في ليبيا وسوريا والسودان ومالي ودول أخرى، تقدم لها «فاغنر» خدمات أمنية جليلة.

القصة لم تنتهِ بعد؛ لكن دروسها تطل برؤوسها شاهدة على أن الطموحات الشخصية والحسابات الخاطئة يقودان إلى نهايات كارثية. الطموحات الشخصية ليست قاصرة فقط على قادة مثل تلك المنظمات الأمنية الخاصة؛ بل أيضاً لكل من تسوّل له نفسه أنه قادر على إسقاط دولة ومؤسساتها، من دون أن تكون له شرعية بين الناس أولاً، ولصالح الناس ثانياً، وبدعم الناس ثالثاً. الإسنادات الثلاثة الأخيرة هي الأساس الصلب الذي قامت عليه ما تعرف بالجيوش الثورية التاريخية، والتي كانت مُشكَّلة من بسطاء جذبتهم فكرة آيديولوجية معينة روج لها زعيم شعبي، لم يتعاملوا مع السلاح من قبل، تجمعوا من الأطراف ثم زحفوا إلى المركز، وأسقطوا نظاماً وشاركوا في صنع آخر. جيش ماو من الفلاحين خير مثال.

السيد يفغيني ليس زعيماً شعبياً، وليست لديه آيديولوجية غير تلك التي تحكم روسيا ومؤسساتها، وجنوده هم مرتزقة بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ ومضامين، بعضهم كانوا مدانين قانونياً، مع بعض القناعات بأن ما يقومون به هو لخدمة بلدهم الأم، سواء في أوكرانيا أو غيرها من البلدان. ورغم انتقاداته التي وجهها في الأشهر الثلاثة الماضية للقيادة العسكرية الروسية، بما فيها الرئيس بوتين نفسه، وكشفت عن خلافات في المنهج بين المؤسسة النظامية في إدارة معارك أوكرانيا، ومنظمة غير معترف بها قانونياً، ولكنها تعمل تحت سقف القوات الروسية وخططها الرئيسية، فلم يقدم يفغيني أي جديد لما شرحه من أسباب لتمرده؛ وهو الوعد بنظام جديد وقيادة جديدة. فأي نظام هذا وأي قيادة ستكون؟

معروف أن هناك مجموعات من الروس ضد الحرب في أوكرانيا، وضد إرسال أبنائهم إلى أرض المعارك، وهناك أيضاً معارضون للرئيس بوتين نفسه ولكل من حوله، ولكن العلاقة بين هؤلاء جميعاً وبين يفغيني يصعب وصفها كزعيم يقود ثورة، وشعب متحمس لها ويؤمن بتلك القيادة، ما يجعل فكرة الزحف نحو العاصمة موسكو المحصنة أمنياً، من بلدة تبعد عنها 400 كيلومتر أمراً مثيراً للسخرية والتعجب الشديد. ودلالته الرئيسية تكمن في الحسابات الخاطئة والأوهام المتولدة عن ثقة مفرطة بالنفس، ليست في موضعها ولا أساس لها. والنتيجة الحتمية لها هي الفشل التام.

مؤسسياً، تضع تلك الدلالة قيداً على الفكر الرسمي، بداية من الرئيس ومروراً بالمؤسسات، فالاعتماد على جهود منظمات تمتلئ بالمرتزقة والعناصر التي تورطت من قبل في جرائم مختلفة، ومُدانة قانونياً، وهدفها الأموال أياً كان مصدرها، من أجل تحقيق هدف يتعلق بالأمن القومي للبلد، هو أمر مملوء بالتحديات والمطبات، وعوائده الأخيرة تكون ضد الأمن القومي نفسه، وضد مبدأ المؤسسات كعماد لبناء الدول وديمومتها. صحيح، قد تقدم هذه المنظمات بعض الفوائد، وتقوم بأدوار خاصة تتجنب المؤسسات الرسمية أن تقوم بها؛ لكن النهاية دائماً هي ضد الأمن القومي بلا تردد.

الأمثلة كثيرة، فمنظمة «بلاك ووتر» الأميركية، تتشابه مع «فاغنر» في كثير من الأمور، من حيث نوعية المجندين والأدوار التي يقومون بها والتمويلات الخاصة وغير الشفافة، والتحرك خارج أطر القانون وضوابط المؤسسات العسكرية. «بلاك ووتر» قامت بكثير من الأعمال ذات الطبيعة الخاصة جداً، في أفغانستان أثناء الوجود العسكري الأميركي طوال عقدين كاملين، في مواجهة عناصر «طالبان» وقتل كثير منهم، إلا أن النهاية كانت سلبية تماماً، فلم تستطع «بلاك ووتر» أن تحول دون الهزيمة والانسحاب وترك البلد لـ«طالبان» تفعل فيها ما تريد.

ربما الفارق الجوهري بين الحالتين الروسية والأميركية، أن الثانية لم تتجاوز مهامها، ولم تخضع لأوهام التغيير والانقلاب والتمرد وطموح السيطرة على البلد ومؤسساته.

ما تقوم به قوات «الدعم السريع» في السودان حالة أخرى من مزيج الطموحات الشخصية والحسابات الخاطئة، والتي تجاوزت طموح التغيير والسيطرة تحت زعم مواجهة الانقلابيين في الجيش السوداني، إلى المواجهة المفتوحة مع مبدأ المؤسسة، العسكرية والمدنية على السواء، وتخريب البلد، وتدمير مقدراته، وتنغيص حياة السودانيين، وإغلاق أبواب الأمل في تهدئة تقود إلى حل سياسي شامل، أحد عناصره الرئيسة هو حل «الدعم السريع»، ودمج من يرغب من أفراده في بنية قوات مسلحة تخضع لإعادة هيكلة شاملة، ما يضمن فعالية مؤسسات الدولة، والخروج من دائرة الدول الفاشلة القابلة للانفراط، إلى دولة طبيعية يحكمها القانون، ويرضى عنها السودانيون على اختلاف أطيافهم.

نماذج تلك المنظمات عديدة، وكلها تفرض نتيجة حتمية لا غنى عنها، فالاعتماد عليها -أياً كانت الأسباب- يقود دائماً إلى كوارث بكل ما تعنيه الكلمة. والدول التي ترهن أمنها القومي أو جزءاً منه لهذه النوعية من تشكيلات المرتزقة، تضع نفسها في موقف حرج سوف ينفجر في لحظة ما. وقد تكون هذه اللحظة حرجة ومصيرية يتوقف عليها مصير الدولة نفسها في البقاء أو الانزلاق إلى العدم.

تمرد «فاغنر» الذي قد يكون مدفوعاً بجهة ما غير روسية، أو نتيجة حسابات خاطئة وطموحات زائدة عن الحد بلا أساس، أو بالأمرين معاً، يُعد درساً لروسيا ولغيرها من الدول. والحصيف من يعتبر مما يجري لجيران حوله، حتى لو كانوا بعيدين عدة آلاف من الأميال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى