حزام النار الأوروبي

أحمد مصطفى

على عكس أغلب الكتابات المتشائمة بالعام الجديد وما بعده بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها العالم، أتطلع بتفاؤل لما هو قادم، على الأقل بالنسبة لمنطقتنا ومستقبل تطورها.

ليس من باب “التفكير بالتمني” ولا حتى بطريقة “النظر إلى نصف الكوب الملآن”.

فما يمر به العالم حاليا رغم ما تبدو من أضراره ومثالبه يمثل فرصة قوية لنا، وربما لمناطق مثلنا، أن تتبوأ مكانة أفضل إذا أحسنت استخدام ما لديها من أدوات وظروف توفرها التطورات العالمية.

لعل أفضل من كتب عن الحرب في التاريخ الحديث والمعاصر هو الجنرال كارل فون كلاوسفيتس بكتابه الشهير “حول الحرب” مطلع القرن التاسع عشر.

ومنه نكرر حتى الآن مقولة أن الحرب هي امتداد للدبلوماسية بطرق عنيفة وكلها سياسة.

أتصور أن أفضل من طور استراتيجية معاصرة من ذلك هو زبيجنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي جيمي كارتر في نهاية سبعينيات القرن الماضي.

فبريجنسكي، وهو من أصل بولندي (أي ليس ببعيد عن الجنرال البروسي كلاوسفيتس)، هو من أصل لفكرة الحروب الممتدة منخفضة المخاطر Protracted Low Intensity Conflicts (PLICs).

أما التطبيق الأمثل لتلك الاستراتيجية فكان ما يمكن وصفه بأنه “حزام نار” يحد روسيا والصين ويمتد من بعض مناطق باكستان (مثل اقليم كشمير الذي به نزاع مسلح منخفض الحدة بين الهند وباكستان) مرورا بأفغانستان وإلى حد ما إيران حتى الهلال الخصيب.

على أن تظل دول ذلك “الحزام” في صراعات لا هي بالقوة كي تشعل حروبا إقليمية أو عالمية ولا هي بالضعف كي تخبو وتنتهي بالدبلوماسية – السياسة.

قوس النار هذا مثل “جدار” يفصل قوى الحرب الباردة السابقة عن مناطق نفوذ الولايات المتحدة والغرب ومصدر التهاب مزمن فيما يسمى “البطن الرخوة” لوريث الاتحاد السوفييتي (روسيا) والقوة الصاعدة (الصين).

تولى حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يضم تركيا على مدى العقود الماضية منذ نهاية القرن العشرين أيضا إخماد أكثر من شرارة ناشئة في المركز الأوروبي وما حوله، من شبه جزيرة البلقان إلى أرمينيا وأذربيجان.

ومع بداية العقد الثاني من القرن الحالي وبسبب الانتفاضات الشعبية في بعض دول المنطقة، كادت شرارة قوس النار تمتد في سهل شمال إفريقيا كله، وإن أصبحت محصورة الآن إلى حد كبير في ليبيا.

أما سبب التفاؤل فهو أن حرب روسيا في أوكرانيا مطلع العام الماضي نقلت حزام النار إلى المركز القديم للعالم، أوروبا، وبعيدا عن منطقتنا إلى حد كبير.

صحيح أن قوس النار حولنا لم يخمد تماما بعد، لكن كل أوكسجين الإشعال ووقود النار يتجه تماما.

ولم يبق سوى أن نستجمع قدرتنا على الإطفاء لإخماد ما تحت الرماد في العراق وسوريا ولبنان وليبيا وغيرها. وهناك بوادر لذلك بجهود تقودها دول الخليج مع مصر والأردن.

مع استمرار الحرب في أوكرانيا، تبقى جذوة شرارة حزام النار قابلة للانتقال لتشكل قوسا جديدا ربما يغلف أوروبا من الشرق وشماله وجنوبه.

فاحتمالات الصراع في البلقان تتزايد في ظل المناوشات بين صربيا وكوسوفو، واحتمال اقدام الأولى على ضم الأخيرة (أو استعادتها بعلى أساس أن صربيا تعتبر نفسها وريثة يوغوسلافيا السابقة التي فتتها الناتو – مثلما تعتبر روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي).

كما أن الصراع بين أرمينيا وأذربيجان قابل للانفجار أيضا، ليس فقط بسبب إقليم ناغورنو كره باخ وإنما لأن الغرب سيعتبر إذكاء ذلك الصراع اضعافا لروسيا بإلهائها باشتعال آخر على حدودها غير أوكرانيا وستعتبر روسيا ذلك “تآمرا” غربيا يتعين التصدي له.

في كلا النقطتين المحتملتين على قوس النار المتوقع، تجد تركيا نفسها في وضع غاية في الصعوبة. ليس فقط لعضويتها في الناتو ومحاولة موازنتها ذلك بالحفاظ على علاقات مع موسكو تفيدها اقتصاديا جدا، ولكن لأن أنقرة داعم تاريخي لأذربيجان ضد أرمينيا لأسباب أخرى.

كما أن كوسوفو، بنصف سكانها الأقرب لألبانيا كانت مركز الامبراطورية العثمانية في وقت ما وهناك ارتباط بينها وبين بتركيا الحالية (التي انقلبت على الأتاتوركية وتعتبر نفسها وريث الإمبراطورية المنهارة).

هناك نقط أقل احتمالا للاشتعال، على الأقل حاليا، مثل بيلاروسيا وبولندا. لكن سواء اتسع نطاق الاشتعال في أوكرانيا أم لا، فهناك حزام جديد يتشكل يجعل الحزام التقليدي المحيط بمنطقتنا في وضع يمكن إطفاؤه تماما والخروج من فكرة الصراع الممتد منخفض القوة تلك. لكن ذلك يعتمد على دولنا، وقدرتها على الاستفادة من الظرف الحالي لتعزيز مصالحها الوطنية والإقليمية.

لذا، تظل هناك إمكانية لأن يكون كل تفاؤلي هذا في مهب الريح. تلك الريح التي وإن حملت شرارات حزام النار شمالا تبقي على جذوة صراعات تحت الرماد حول منطقتنا. بمعنى أن تظل النار تحت الرماد في هلالنا الخصيب وساحل إفريقيا على المتوسط حتى مع جذوة صراعات في شرق أوروبا وجنوبها الشرقي على الساح الآخر للمتوسط.

إنما ذلك السيناريو المرعب سيكون انطلاقة حرب عالمية على الأرجح، ولن يمكن حصره ضمن تصور بريجنسكي. والأغلب في تلك الحالة بعيدة الاحتمال أن تختفي الأقواس والأحزمة ويمتد الشرارة إلى القوى الرئيسية من روسيا إلى أوروبا الغربية.

لكن حتى في حالة هذا التصور الذي يتسم بالشطط، تظل هناك فرصة للدول الرئيسية في منطقتنا أن تدير مصالحا بما يعظم مكاسبها ويقلل خسائرها. وأظن أن الموقف الذي نتخذه الآن من الصراع في أوكرانيا أرضية جيدة لذلك التفاؤل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى