رأسان يدمّران العالم

قبل أن يلقي الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كلمته في الأمم المتحدة، مهّد وزير خارجيته ماركو روبيو الطريق له بتصريح قال فيه: “سيتحدّث الرئيس عن سبب استمرار الأمم المتحدة. ما سيفعله هو حثّها على إيجاد معناها وهدفها وفائدتها منظمةً. اعتراف دول غربية بدولة فلسطين يحظى ببعض الاهتمام لكن لا وجود لهذه الدولة”. نعى الدولة، ودعا إلى ترقّب كلمة الرئيس حول الأمم المتحدة، فقال: “ما جدوى الأمم المتحدة؟ كل ما تفعله هو إرسال رسائل شديدة اللهجة بلا متابعة تذكر. الكلمات الجوفاء لا تنهي الحروب. دورها منع الغزوات لا إيجادها، ومنع اللجوء لا تمويله. الأمم المتحدة تمتلك إمكانات هائلة لكن أولوياتها خاطئة وتتعارض مع مصالح الدول ذات السيادة”. وتوجّه إلى أوروبا بالتالي: “إذا أردتم استعادة عظمتكم فأنتم بحاجة إلى حدود قوية ومصادر طاقة تقليدية. العديد من الدول الأوروبية على شفا الهاوية بسبب أجندة الطاقة الخضراء غير المنضبطة. إنهما وحشان برأسين يدمّران العالم. بلدانكم ستذهب إلى الجحيم من دون إجراءات سريعة بشأن الهجرة”.
ماذا بإمكان الأمم المتحدة أن تفعل عندما تستخدمون حقّ النقض (فيتو)؟ أليس هذا ما عطّل اتخاذ قرارات لوقف الحروب ومعالجة النزاعات بالسياسة؟ أليست سياساتكم واستباحتكم دولاً وتدخّلاتكم واستقواؤكم هي التي عطّلت قرارات صدرت عن مجلس الأمن؟ فأنتم (وغيركم في مواقع أخرى) تمنعون صدور قرار، وإذا صدر أنتم تعطلون؟ من حمى إسرائيل؟ من غطّى إرهابها ومجازرها، والإبادة الجماعية التي ترتكبها بحقّ الفلسطينيين؟ من أسقط القرارات الدولية؟ هل الفلسطينيون لاجئون في أرضهم لتصرّوا على ترحيلهم إلى دول أخرى بعد إبادة العدد الأكبر منهم في أفظع جريمة في التاريخ؟ من انسحب من اتفاقية المناخ والاتفاقات الأخرى التي يفترض أن تؤدّي إلى تهدئة الأوضاع وحماية البشرية من الحروب والأوبئة والفوضى والخراب والدمار؟ من احتكم (ويحتكم) إلى منطق القوة ليكسر قوة المنطق في الساحة الدولية والمنظّمات والهيئات والمؤسّسات والمحاكم الدولية؟ من هدّد قضاة محكمة العدل الدولية وقضاة المحكمة الجنائية؟ ألستم أنتم؟ تهدّدون أوروبا وتتحدّثون عن انهيارها ودمارها، متى كنتم مع دورها الفاعل؟ ومع الشراكة معها؟ ومع ازدهارها ونموّها وتطوّرها وقوتها الاقتصادية؟ أليست هذه السياسات والإرادات والقناعات والثوابت التي تجمعكم برئيس حكومة الإرهاب الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المهووس بالدم والقتل والإبادة الجماعية والتهجير والإخضاع باستهدافه الشعب الفلسطيني، وإسقاط التسويات والاتفاقات التي تُعقد، وتعطيل الوصول إليها في مراحل معينة لتحقيق مصالحه ورؤيته، وكسب الوقت في طريق تحقيق “المهمّة الروحية” و”الرسالة الإلهية” و”التكليف الديني”، والأهداف الكبرى المؤتمن عليها، وفي رأسها “إسرائيل الكبرى”؟
هذا الذي قال كلمته في الأمم المتحدة في قاعة شبه فارغة ولم يهتزّ، يعرف ماذا فعل وماذا سيفعل. ذكّر بكل إنجازاته في اليمن وإيران وسورية ولبنان وغزّة وقطر، مؤكّداً أن “لإسرائيل اليد الطولى”، شاكراً الرئيس ترامب على دعمه للتخلّص من التهديد الإيراني الوجودي لإسرائيل، مخاطباً العرب بوضوح “أنا المخلّص”، أنا فعلت كذا وكذا وكذا، وسأكمل عملي، مشيراً إلى أن عدداً كبيراً من القادة الذين ينتقدون إسرائيل علناً يشكرها خلف الأبواب المغلقة، وتساعدها دولهم وتهاجمها إعلامياً، وأنه حان الوقت لتكونوا مع اسرائيل سرّاً وعلانية. نحن نحكم العالم.
ما قاله عن الدول المعنية بكلامه صحيح، ولولا سياساتها لما تمكّن من إطلاق اندفاعته الدموية الكبيرة، ولا استمرّت حملة الإبادة الجماعية التي يصرّ على استكمالها وتحقيق أهدافه بالكامل. وفي تعليقه على التصويت والاعتراف بدولة فلسطين قال: “الرسالة التي بعث بها القادة الذين اعترفوا بدولة فلسطين هذا الأسبوع هي تشجيع على قتل اليهود في العالم”.
هذا استسلام مخزٍ لا يلزم إسرائيل بأيّ شكل، لن تكون هناك دولة فلسطينية”. هي إدانة للدول التي تحدّث عن تشجيعها لهم في السرّ. مطلوب أن تكونوا مع إسرائيل في السرّ والعلن، كما قال، ولا يجوز أن تتخذوا خطوات أو قرارات تشكّل دعوةً إلى قتل اليهود. المطلوب أن تكونوا عرباً شركاء في قتل وإبادة إخوانكم الفلسطينيين، وأن تؤسّسوا لقتل أنفسكم وغرقكم في حروب داخلية في بلادكم وفوضى وخراب ودمار، كما أشار إلى ذلك ترامب مخاطباً الأوروبيين. مطلوب أن يكون الجميع في الداخل والخارج مؤيداً للإبادة والمجازر وإقامة “إسرائيل الكبرى”. قال ذلك ورئيسه إسحق هرتسوغ يتحدّث عن “عداء لإسرائيل” لم يَشهد له مثيلاً منذ قيامها، والمظاهرات في كل أنحاء العالم ضدّ أعماله وإرهابه، وفي الداخل صدرت أصوات تتهمه بقيادة إسرائيل إلى الفوضى والانهيار. ومع ذلك، يستمرّ ويصرّ على الاستمرار في نهجه مدعوماً بقوة بلا حدود من ترامب وإدارته.
نحن أمام رجلَين، رأسَين. الأول يريد تغيير العالم وإعادة تشكيله على طريقته، وما أدراكم ما ترامب وعبثيّته. والثاني يريد تغيير الشرق الأوسط وإعادة تشكيله بقيام “إسرائيل الكبرى”، وسبق أن قال: “إسرائيل تقود العالم”، واليوم يقول: “إسرائيل تحكم العالم”… رأسان سيدمّران العالم.