قيس سعيد وإقالة العاجزين عن فهم طبيعة اللحظة

الحبيب الأسود

 

يتقدم الرئيس التونسي قيس سعيد في تنفيذ مشروعه السياسي بكل حذافيره، في الوقت الذي يتلهى فيه معارضوه بتعداد قراراته المتصلة بإقالة هذا المسؤول أو ذاك، وآخرها قرار إقالة والي (محافظ) القيروان محمد بورقيبة في أعقاب اجتماع وزراي خصص لبحث أسباب تعطل مشروع إنشاء مستشفى الملك سلمان بن عبد العزيز بالمدينة، رغم مرور ست سنوات على وضع حجره الأساس في يوليو 2017 من قبل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي.

حظي قرار سعيد بإقالة الوالي بدعم شعبي كبير ليس فقط بسبب ملف المستشفى، وإنما نتيجة إخفاقه في إدارة شؤون الولاية ذات الأهمية الخاصة سياسيا واجتماعيا وثقافيا وإستراتيجيا في وسط البلاد، ورغم مرور أربع سنوات على تعيينه في ذلك المنصب الذي يفترض أن يكون فيه الممثل الرسمي لرئيس الدولة في منطقة نفوذه، وأن يكون المسؤول عن تنفيذ سياسات أعلى هرم السلطة.

واللافت أن قرار إقالة الوالي جاء بعد ساعات من مشاركته في الاجتماع الذي أشرف عليه الرئيس قيس سعيد بقصر قرطاج بحضور رئيس الحكومة ووزير الصحة ووزير التجهيز والإسكان، والذي تم التطرق فيه إلى ملف مستشفى الملك سلمان من كل الجوانب، حيث أشار الرئيس، وفق البيان الرسمي، إلى أن هذا التأخير فضلا عن أنه يمس بمصداقية الدولة التونسية، فإنه حرم الكثير من المواطنين من حقهم المشروع في الصحة والعلاج، كما أكد على أن التعلل بالدراسات وبالجوانب الفنية وغيرها من الأسباب الواهية ليس مبررا على الإطلاق، ولا يمكن القبول تحت أيّ مبرّر كان باستمرار الدراسات منذ سنة 2017 إلى اليوم، فالأموال مرصودة ولكن كلما تم إنجاز دراسة إلا ووقع استبدالها بدراسة ثانية لتليها أخرى ثالثة ولا أثر في الواقع لأيّ إنجاز.

وكما هو واضح، تم فسح المجال للوالي للإدلاء بدلوه في الملف المطروح للنقاش والدفاع عن وجهة نظره، لكنه لم يكن مقنعا بالشكل الذي يعفيه من مسؤولية الإهمال والفشل في تحمّل المسؤولية، لاسيما في علاقة بمحاولة فهم طبيعة العراقيل التي حالت دون الانطلاق في تنفيذ المشروع والكشف عن الواقفين وراءها في ظل حديث الرئيس سعيد في مناسبات عدة عن وجود مؤامرات ومتآمرين من داخل مؤسسات الدولة وخارجها، يستهدفون إثارة الغضب الشعبي وتهديد السلم الاجتماعي وضرب حركة الإصلاح في مقتل.

يقود الرئيس سعيد مقاومة استثنائية ضد الساعين لعرقلة مشروعه الوطني، ويبدو في المشهد العام باعتباره المعارض الأول والأبرز والأهم للمتخفين وراء ستائر المسؤولية والمتغلغلين في مفاصل الدولة ومن يقودون معركة شرسة للإطاحة بمشروع يوليو 2022 بأبعاده السياسية والحضارية والإستراتيجية، ولذلك فإنه يصدر قراراته في وقتها ووفق ما يفرضه الواقع ودون التفات للمنتقدين أو الراكبين على الأحداث بعقلية التشكيك والتشويش والصيد في المياه العكرة، وهو يدرك أن الشارع معه وأن الأغلبية الساحقة من التونسيين تصدّقه في أقواله وتسنده في قراراته وتثق باختياراته.

وكان الرئيس سعيد قد حذّر من أطراف قال إنها تسعى إلى ضرب الدولة من الداخل عبر استهداف السلم الأهلي، مشددا على أنهم سيتحمّلون مسؤولياتهم كاملة، مؤكدا أن لا مجال لأن يحل أحد محل الدولة ومؤسساتها، ولفت إلى أن الأوضاع التي تعيشها تونس اليوم وما يحدث من قبل الغارقين حتى النخاع في الفساد بضرب مؤسسات الدولة والتطاول على رموزها يرتقي إلى جريمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، مؤكدا أن هذه الأوضاع لا يمكن أن تستمر، وأن هؤلاء لا يمكن أن يبقوا دون جزاء في إطار القانون.

ولا شك أن على من ينتقدون قرارات الرئيس بإقالة عدد من المسؤولين خلال الأشهر الماضية، أن يتوقفوا عند جملة من النقاط الأساسية في مسارات العملية السياسية الحالية في البلاد.

  • أولا، تعتمد تونس حاليا ووفق دستور 2022 نظاما رئاسيا واضح المعالم، ومن ذلك أن رئيس الجمهورية هو من يعيّن رئيس الحكومة، كما يُعين بقيّة أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وينهي مهام الحكومة أو عضو منها تلقائيا أو باقتراح من رئيس الحكومة، وبالتالي فإنه من يتحمل مسؤولية سياساته أمام الشعب خلال الاستحقاقات الانتخابية، وفي مناسبات عديدة أكد قيس سعيد أن الدولة لها رئيس واحد وهي لا تدار برأسين، وقد أثبتت التجربة أنه من يتولى التعيينات والإقالات في المناصب السيادية وفق المعطيات المتوفرة لديه من قبل أجهزة الدولة المختصة.
  • ثانيا، يتزعم الرئيس سعيد مشروعا سياسيا جديدا ومختلفا في صياغته، ويعتبره أنصاره حلا ليس فقط لمشاكل تونس وإنما لمشاكل الإنسانية، وكما هو واضح فإن هذا المشروع يسعى لتشكيل منظومة الديمقراطية المباشرة، ولا يعتمد على وسطاء بين السلطة والشعب كالأحزاب السياسية مثلا التي كان لها دور أساسي من فجر الاستقلال في العام 1956، وحتى التدابير الاستثنائية المعتمدة في يوليو 2021 سواء من حيث نظام الحزب الواحد أو التعددية الحزبية، وفي انتظار اكتمال المشروع بانتخاب المجلس الوطني للجهات والأقاليم والانتهاء من تشكيل المنظومة التشريعية وتكريس آليات تنفيذ المبادئ الأساسية للمشروع الجديد، فإن الرئيس سيبقى في حاجة إلى أن يتابع بنفسه الملفات المهمة ويصدر القرارات الحاسمة ومنها إقالة المسؤولين الذين يكتشف أنهم غير منضبطين في خدمة أهداف يوليو 2021 وغير متحمسين للاندماج الفعلي في مشروع الجمهورية الثالثة بأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية وبروح التجديد التي يكتسيها.
  • ثالثا، لا تزال تونس تعيش حالة مخاض سياسي واجتماعي، وهناك الكثير من المؤشرات حول وجود محاولات لضرب المشروع الإصلاحي للرئيس سعيد من داخل مؤسسات الدولة ذاتها، ومن يتابع عن قرب ما يدور في تلك المؤسسات وخاصة على الصعيدين الجهوي والمحلي يدرك حجم العراقيل التي يعمل أصحابها على بعث اليأس في نفس المواطن البسيط لدفعه نحو إعلان الغضب، وكذلك حجم المؤامرات التي لا تزال ترتكب من قبل القوى الحزبية والعقائدية والكرتلات الفئوية والمصلحية التي تهدف إلى ضرب منظومة يوليو 2022، سواء عبر شبكات الفساد والاحتكار والتلاعب بقوت المواطن وأمنه النفسي والاقتصادي والاجتماعي، أو من خلال تعطيل المشاريع والحؤول دون تنفيذها رغم أن ميزانياتها رصدت لها منذ سنوات كما هو الحال في موضوع مستشفى الملك سلمان.

إن الإقالات المعلنة مؤخرا تصبّ في سياقات عدة لعل أهمها عدم قدرة المسؤولين المستهدفين على الوعي بدقة اللحظة الثورية التي تعرفها البلاد وأهميتها، والتي يحاول الرئيس سعيد تحويلها إلى منطلق إعادة تأسيس للدولة الوطنية بروح إصلاحية يكون الشعب فيها السائل والمسؤول.

بيد أن سياسة الإقالات باتت متعارفا عليها في تونس، حيث تعد إقالة بورقيبة الإقالة التاسعة التي يجريها قيس سعيد، منذ مطلع العام الجاري، وشملت عددا من الوزراء وكبار المسؤولين، كان آخرها إقالة المدير العام لديوان الحبوب بشير الكثيري في 14 أغسطس الجاري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى