قيس سعيد يتحدى التعقيدات لتفكيك منظومة النهضة وحلفائها

مختار الدبابي

من الواضح أن الرئيس التونسي قيس سعيد يريد أن يفتح ملفات العشرية التي أوصلت البلاد سياسيا واقتصاديا إلى وضع صعب، وهو مطلب شعبي واسع، ومطلب لدى فئة كبيرة من النخبة السياسية والثقافية والمجتمعية المناوئة للإسلاميين والتي تطالب بكشف ملفات المرحلة التي حكموا فيها في ظل ما صاحبها من تساؤلات بشأن اختراق مؤسسات الدولة.

في مرحلة أولى قام الرئيس سعيد بوقف حكم هذه المنظومة من خلال مسار 25 يوليو 2021، بحل الحكومة وتجميد البرلمان ثم حله لاحقا، وإنهاء النظام البرلماني الذي كان يؤسس لصراع السلطات ويمنع أي سلطة من أداء مهامها بشكل كامل، وهو ما أفضى إلى حالة شاملة من الفوضى واستضعاف الدولة.

قام قيس سعيد بالخطوة الأهم، وهي إسقاط حكم المنظومة، لكن ما يزال هناك الكثير من الجهد والوقت لتفكيك نفوذها في مؤسسات الدولة، وخاصة تأثيرها الاقتصادي، وهو عنصر معرقل ومربك للدولة في مسعاها لإدارة أزمة الحبوب والخبز، وندرة أغلب المواد الأساسية، وارتفاع الأسعار.

لدى الرئيس التونسي قناعة بأن الكارتلات التي تقف في وجه مساعيه لتجاوز أزمة الغذاء وارتفاع الأسعار هي واجهة للأحزاب التي حكمت في المنظومة السابقة، وأنها بعد أن فشلت في مواجهته سياسيا بالأشكال المعهودة، مثل التظاهرات والاجتماعات، لجأت إلى مواجهته عبر أشكال ملتبسة ودون أن تظهر في الصورة، وأنها تخطط لإرباكه من بوابة احتكار المواد الأساسية.

مع ملاحظة أن المواد الأساسية مثل السميد والدقيق ومشتقاتهما والسكر والقهوة والحليب كانت متوفرة بشكل سلس قبل 25 يوليو 2021. ومنذ استلام الرئيس سعيد مختلف الصلاحيات بيده، بدأ وجود هذه المواد بالتراجع المحير، خاصة أن مشكلة العملة الصعبة لدى تونس هي نفسها، وتعطل الاتفاق مع صندوق النقد سابق لمسار 25 يوليو، والطارئ الوحيد كان التأثير على الحبوب بسبب الحرب في أوكرانيا.

فجأة باتت تونس عاجزة عن استيراد مختلف هذه المواد، وارتفعت الأسعار بشكل متزامن إلى حد بات يثير غضب الناس، مع أن لا شيء تغير يمكن أن يفسر هذا التحول الدراماتيكي سوى وجود قوة كامنة تدير اللعبة من وراء الستار.

لأجل هذا بدأ الرئيس سعيد بالبحث عن صيغ لتفكيك هذه القوة الكامنة من خلال شعار “تطهير الإدارة” من المعرقلين، وهو التوجه الذي بدأت بتنفيذه مختلف الوزارات، وشرع فيه القضاء، بهدف الوصول إلى العناصر التي تم زرعها لأجل العرقلة.

ويتنزل في هذا السياق توقيف عدد من قادة المرحلة الماضية من وزراء ونواب ومسؤولين في مواقع مختلفة، والسعي لجلب أسماء بارزة أخرى كانت غادرت البلاد في مراحل سابقة.

وبقطع النظر عن الاتهامات التي يعلن عنها قضاة التحقيق في قطب الإرهاب، والتسميات التي تحملها من نوع “وفاق إرهابي” أو “التآمر على أمن الدولة”، فإن تلك التهم هي الباب للدخول إلى تفاصيل كل الأشخاص الذين أسهموا في الوضع لأنهم سيستجوبون عن كل صغيرة وكبيرة، سابقة أو تتعلق بالمؤامرة المفترضة.

ووفقا لتصريحات محامي بعض من تم توقيفهم، فإن التحقيقات تتجه إلى معرفة التعيينات التي تمت في عهد كل مسؤول منهم، سواء أكان رئيس حكومة، أو وزيرا، أو مسؤولا.

يعني أن التحقيقات القضائية تسير وفق خطة رئيس الجمهورية بشأن معرفة أساليب إغراق الإدارة بالمقربين من الأحزاب التي حكمت في المرحلة الماضية، وخاصة من الكادر الموجود في الوزارات السيادية، وهو ما يفسر تنوع قائمة المتهمين الجدد الذين صدر بحقهم طلب جلب دولي لتشمل سياسيين وأمنيين كانوا في مواقع قرار بالمرحلة الماضية.

لا يتعلق البحث بالانتماء الحزبي، ولا بالمشاركة في الحكم، ولا بتولي مهمة في المرحلة الماضية، فالدولة لا تعاقب مسؤولا اشتغل فيها من باب التشفي. ولكن البحث تعلق بنقطة واحدة، وهي معرفة أسماء المستشارين وكبار المسؤولين الذين اشتغلوا لفائدة الأحزاب الحاكمة، ومن وظفوا وفي أي مواقع، وهل كان الموظفون الجدد من أبناء الإدارة أم من خارجها، وهل قدموا تسهيلات وخدمات لفائدة أطراف حزبية، ولوبيات نفوذ أخرى.

ولا يقف هذا البحث عند التعيينات في حد ذاتها، ولكن عند صلة بعض الذين تم توظيفهم بأجندة التعطيل والعرقلة، والوقوف على الجهة التي تقف وراءها، هل هي أجندة حزبية، أم تقاطع مصالح بين لوبيات المال والسياسة، أم مجرد شكوك تنتهي مع انتهاء التحقيقات.

وليست الاتهامات التي وجهت لهؤلاء المسؤولين أكثر من تهم إلى حد الآن. وإذا كان من حقهم أن يدافعوا عن براءتهم ويطلبوا إطلاق سراحهم، فمن حق القضاء طالما أن لديه شكوكا أو قرائن أن يوقف من يريد على أن يكون ذلك ضمن الإجراءات القانونية المعمول بها في البلاد.

المعارضة قد ترى في الأمر مجرد حملة من السلطة على خصوم سياسيين خاصة في ظل اختلاف التوجهات بين المطلوبين للقضاء. وهذا تأويل ذرائعي هدفه تبرئة النفس بالهجوم على السلطة واعتبار كل ما تقوم به مؤامرة. لكن من حق السلطة، ومن حق الناس، أن يعرفوا تفاصيل ما جرى خلال المرحلة الماضية، ومن المسؤول عما وصلت إليه البلاد من أزمات مركّبة، أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية.

الذي يحكم يفترض أن يتحمل المسؤولية عما جرى في فترة حكمه، لا أن ينقل الأزمة إلى غيره. النهضة وحلفاؤها الآن يسعون إلى حرف الأنظار عن حقيقة الأزمة التي تعيشها البلاد كونها نتاجا لفشلهم في إدارة تونس ما بعد 2011، وليس لأن قيس سعيد حل برلمانا يتفق الجميع بمن في ذلك النواب الذين عملوا بداخله بأنه كان أقرب إلى سيرك منه إلى فضاء تشريعي.

ومثلما أن من حق النهضة أن تدافع عن نفسها وعن حلفائها، فمن حق قيس سعيد أن يتساءل عن الأموال التي حصلت عليها البلاد خلال عشر سنوات أين ذهبت، وفيها قروض ومساعدات وهبات من دول ومنظمات كانت تسعى لدعم الانتقال الديمقراطي، كتجربة نموذجية في الإقليم لكنه بدلا من ذلك تحول إلى تجربة ارتبطت بتزايد نفوذ لوبيات الفساد واستضعاف الدولة.

من حق المسؤول اللاحق أن يسأل من سبقه عن أدق التفاصيل، فما بالنا بمرحلة حساسة شهدت أحداثا كبيرة منها اغتيالات لوجوه سياسية بارزة، وأنشطة إرهابية ذهب ضحيتها العشرات، وعمليات تسفير لفائدة تنظيمات متشددة.

وكان واضحا أن قيس سعيد لم يستهدف فئة بعينها في هذه الحملة حتى لا يبدو الأمر تصفية حساب سياسي، وقد جمعت توجهات مختلفة وشخصيات متباعدة سياسيا، بمن في ذلك من عملوا معه بعد 25 يوليو 2021 مثل مديرة مكتبه السابقة من دون أي حرج أو قلق مما قد يصدر عنها من تسريبات أو تصريحات وهي الموجودة خارج تونس، ولا يبدو أنه مهتم بما ستكشفه.

لكن من المهم الإشارة إلى أن توقيف وطلب جلب شخصيات عملت بمواقع متقدمة في مرحلة سابقة يحتاج من القضاء إلى تسريع الأبحاث والمكافحات وتقديم الأدلة وتكوين ملفات جدية تقدّم الدليل على الخصوم ولا تترك الباب للتأويل والمزايدة، خاصة أن الناس إلى حد الآن يسمعون موقف المتهمين ومحاميهم وأهاليهم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وبعضهم يتحرك خارجيا ويوظف الملفات الصحية لجلب التعاطف فيما تلازم السلطة الصمت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى