واشنطن تخفي “جريمة حرب” ارتكبتها قواتها في سوريا

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” السبت، تقرير مفصل، كشفت فيه عن غارة شنّها الجيش الأميركي على سوريا، وتسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين، إبان معركته مع تنظيم “داعش” خلال أيامه الأخيرة قبل سقوطه في 2019، ووصفها ضابط قانوني بأنها “جريمة حرب محتملة” تتطلب إجراء تحقيق.

وأوضح التقرير، أنه في الأيام الأخيرة من المعركة ضد “داعش” في سوريا، عندما حوصر عناصر التنظيم في حقل ترابي في بلدة الباغوز، حلقت طائرة أميركية عسكرية بدون طيار في سماء المنطقة بحثاً عن أهداف، لكنها رأت حشداً كبيراً من النساء والأطفال متجمعين على ضفة النهر.

وأضاف التقرير أنه من دون سابق إنذار، أسقطت طائرة هجومية أميركية من طراز F-15E قنبلة تزن 500 رطل على الحشد، ما أدى إلى وقوع انفجار مروع. ومع تلاشي الدخان، أسقطت الطائرة قنبلة أخرى تزن 2000 رطل، ثم أخرى، ما أسفر عن وفاة معظم المتواجدين.

أسقطنا للتو 50 امرأة وطفلاً

وأشار التقرير نقلاً عن أحد الضباط، إلى أنه في 18 مارس 2019، في مركز العمليات الجوية المشتركة المزدحم التابع للجيش الأميركي في قاعدة العديد الجوية في قطر، كان عناصر يرتدون الزي العسكري يشاهدون لقطات حية للطائرات بدون طيار وينظرون في حالة من الذهول.

ونقلت الصحيفة محادثة تمت على نظام دردشة آمن يستخدمه مراقبو الطائرات بدون طيار، فور وقوع الهجوم، عن أحدهم قوله: “من فعل ذلك؟”، ورد آخر: “لقد أسقطنا للتو 50 امرأة وطفلاً”.

وسرعان ما وجد تقييم أولي لأضرار الهجوم، أن عدد الضحايا كان في الواقع حوالي 70 شخصاً.

كانت غارة الباغوز واحدة من أكبر حوادث الضحايا المدنيين في الحرب ضد تنظيم “داعش”، لكن لم يعترف بها الجيش الأميركي علناً، بحسب الصحيفة.

الجيش قام بإخفاء الضربة

وتظهر التفاصيل، التي كشفت عنها “نيويورك تايمز” لأول مرة، أن عدد الضحايا كان واضحاً على الفور للمسؤولين العسكريين، إذ وصف ضابط قانوني الغارة بأنها “جريمة حرب محتملة” تتطلب إجراء تحقيق.

لكن الجيش قام بخطوات أخفت الضربة الكارثية، بداية من تقليل عدد الضحايا، ثم تأخير التقارير وتعقيمها وتصنيفها، وبعدها قامت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بتجريف موقع الانفجار، ولم يتم إخطار كبار القادة، وفقاً للتقرير.

وبدأ المفتش العام المستقل بوزارة الدفاع الأميركية “البنتاجون” تحقيقاً، لكن التقرير الذي يحتوي على نتائجه تم تعطيله وتجريده من أي إشارة إلى الضربة.

ونقل التقرير عن جيني تايت الذي عمل على ملف القضية في مكتب المفتش العام، ووافق على مناقشة الجوانب التي لم يتم الكشف عنها، قوله: “القيادة تبدو وكأنها عازمة على دفن هذا الهجوم، لا أحد يريد أي شيء له علاقة به، وهذا يجعلك تفقد الثقة في النظام.. عندما يحاول الناس فعل الصواب لكن لا أحد في مناصب القيادة يريد سماعه”.

انتقادات

وقال تايت، وهو ضابط سابق في البحرية الأميركية وعمل لسنوات كمحلل مدني مع وكالة الاستخبارات والمركز الوطني لمكافحة الإرهاب، قبل الانتقال إلى مكتب المفتش العام، إنه انتقد عدم اتخاذ أي إجراء بشأن ذلك، وتم إجباره في النهاية على ترك وظيفته.

جمعت “نيويورك تايمز” تفاصيل الضربات على مدى شهور من وثائق وتقارير سرية، بالإضافة إلى مقابلات مع أفراد متورطين بشكل مباشر، ومسؤولين لديهم تصاريح أمنية سرية للغاية ناقشوا الحادث بشرط ألا يتم الكشف عن هوياتهم.

وخلص تحقيق الصحيفة الأميركية، إلى أن التفجير تم بواسطة وحدة عمليات خاصة سرية “فرقة العمل 9″، التي كانت مسؤولة عن العمليات البرية في سوريا.

“فرقة العمل 9”

عملت هذه الفرقة في سرية تامة لدرجة أنها في بعض الأحيان لم تبلغ حتى شركائها العسكريين عن أفعالها. وقال ضابط خدم في مركز القيادة، إنه لم يكن لدى قيادة القوات الجوية الأميركية في قطر أي فكرة عن ضربتي الباغوز.

في الدقائق التي أعقبت الغارة، استدعى ضابط مخابرات سلاح الجو في مركز العمليات محامي القوات الجوية المسؤول عن تحديد مشروعية الضربات، وأمر المحامي سرب “إف -15 إي” وطاقم الطائرة بدون طيار بالحفاظ على جميع مقاطع الفيديو والأدلة الأخرى، وفقاً للوثائق التي حصلت عليها الصحيفة.

وأشارت الوثائق إلى أن الضابط صعد إلى الطابق العلوي، وأبلغ التسلسل القيادي بالضربة، قائلاً إنها “انتهاك محتمل لقانون النزاع المسلح – جريمة حرب – وأن اللوائح تتطلب تحقيقاً شاملاً ومستقلاً”. لكن لم يتم إجراء تحقيق شامل ومستقل.

القيادة تعترف

وذكرت الصحيفة أنها أرسلت النتائج التي توصلت إليها إلى القيادة المركزية الأميركية، التي أشرفت على الحرب في سوريا، هذا الأسبوع، ما أجبر القيادة على الاعتراف بالضربات لأول مرة، قائلة إن “80 شخصاً سقطوا لكن الضربات الجوية كانت مبررة”.

وأضافت القيادة أن “القنابل قتلت 16 مقاتلاً و4 مدنيين. أما بالنسبة للضحايا الـ60 الآخرين، فقال البيان إنه “لم يتضح أنهم مدنيون، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن النساء والأطفال في التنظيم كانوا يحملون السلاح في بعض الأحيان”.

وقال النقيب بيل أوربان، المتحدث الرئيسي باسم القيادة، في البيان: “نبغض فقدان أرواح الأبرياء ونتخذ جميع الإجراءات الممكنة لمنع حدوث ذلك”، مضيفاً “في هذه الحالة، أبلغنا ذاتياً عن الغارة وحققنا فيها وفقاً لأدلتنا، ونتحمل المسؤولية الكاملة عن الخسائر غير المقصودة في الأرواح”.

التقييم الوحيد الذي تم بعد الضربة مباشرة، أجرته نفس الوحدة البرية التي أمرت بالضربة.

جرائم حرب

وقالت القيادة إنها قررت أن القصف “كان قانونياً لأنه قتل عدداً قليلاً فقط من المدنيين أثناء استهداف مقاتلي داعش في محاولة لحماية قوات التحالف”، مضيفة أن لهذا السبب “لم يكن هناك ما يبرر وجود إخطار رسمي بجرائم حرب أو تحقيق جنائي أو إجراء تأديبي، إذ أن الوفيات الأخرى كانت عرضية”.

لكن محامي سلاح الجو، المقدم دين دبليو كورساك، يعتقد أنه شهد “جرائم حرب” محتملة وضغط مراراً على قيادته والمحققين الجنائيين في القوات الجوية للتحرك. وعندما لم يفعلوا ذلك، نبه المفتش العام المستقل لوزارة الدفاع، بحسب الصحيفة.

وبعد عامين من إضراب كورساك، لم يرَ أي دليل على أن وكالة المراقبة تتخذ إجراءً، فأرسل بريداً إلكترونياً إلى لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، وأخبر موظفيها أن لديه مواد سرية للغاية لمناقشتها وأضاف: “أعرض نفسي لخطر كبير عبر إرسال هذا البريد”.

وكتب في رسالة البريد الإلكتروني التي حصلت عليها الصحيفة: “كبار المسؤولين العسكريين الأميركيين تحايلوا عمداً ومنهجياً على عملية الضربة المتعمدة”، مشيراً إلى أن “الكثير من المواد سرية وستحتاج إلى مناقشة من خلال اتصالات آمنة”.

وأفاد بأن إحدى الوحدات قد أدخلت عمداً إدخالات زائفة في سجل الضربات، “تسعى بوضوح للتستر على الحوادث”، واصفاً حصيلة الضحايا المصنفة بأنها “عالية بشكل صادم”، وقال إن الجيش لم يتبع متطلباته الخاصة للإبلاغ عن الغارة والتحقيق فيها، مؤكداً أن “القيادات العليا في الحكومة ظلت غير مدركة لما كان يحدث على الأرض”.

رسوم غير محسوبة

وبحسب “نيويورك تايمز” صورت الولايات المتحدة الحرب الجوية ضد “داعش” على أنها “أكثر حملة قصف دقيقة وإنسانية في تاريخها”، وقال الجيش إنه “تم التحقيق في كل تقرير عن سقوط ضحايا مدنيين، ونشرت النتائج علناً​”. لكن ضربات الباغوز تحكي قصة مختلفة.

تشير التفاصيل كما أفادت الصحيفة، إلى أنه بينما يضع الجيش قواعد صارمة لحماية المدنيين، استخدمت فرقة العمليات الخاصة مراراً قواعد أخرى للالتفاف عليها.

نادراً ما كان لدى الفرق العسكرية التي تحصي الضحايا الوقت أو الموارد أو الحافز للقيام بعمل دقيق، ونادراً ما واجهت القوات تداعيات عندما تسببت في مقتل مدنيين.

لم تتم محاسبة أحد

حتى في حالة الباغوز – التي ستحتل المرتبة الثالثة في أسوأ أحداث الخسائر المدنية في سوريا إذا تم الاعتراف بوفاة 64 مدنياً – لم يتم اتباع اللوائح الخاصة بالإبلاغ عن الجريمة المحتملة والتحقيق فيها، ولم تتم محاسبة أحد، وفقاً للصحيفة.

واعترف الجيش مؤخراً بأن ضربة فاشلة في العاصمة الأفغانية كابول في أغسطس الماضي، أسفرت عن سقوط 10 مدنيين، من بينهم 7 أطفال، لكم مراقبون أشاروا إلى أنه في كثير من الأحيان، يتم التقليل من عدد الوفيات بين المدنيين حتى في التقارير السرية.

وضرب ما يقرب من ألف غارة أهدافاً في سوريا والعراق في 2019، باستخدام 4729 قنبلة وصاروخ، وأدت إلى وفاة 22 مدنياً، وفقاً لحصيلة رسمية، لكن هناك غارات ليست على القائمة.

انتصار.. ولكن

مثلت المعركة في الباغوز نهاية حملة قادت الولايات المتحدة قرابة 5 سنوات لهزيمة تنظيم “داعش” في سوريا، وكانت انتصاراً للسياسة الخارجية للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.

ففي ذروة سيطرة التنظيم عام 2014، الذي كان يحتل مناطق في سوريا والعراق، ضرب أسطول من طائرات التحالف والطائرات النفاثة والمروحيات الهجومية والقاذفات الثقيلة مواقع “داعش” بنحو 35 ألف غارة على مدى السنوات الخمس، ما مهد الطريق أمام الجماعات المسلحة الكردية والمحلية لاستعادة الأرض.

وفي نهاية القتال الطاحن، حاصرت الضربات الجوية آخر مقاتلي التنظيم في قطعة أرض زراعية قرب نهر الفرات بالقرب من الباغوز. وأجبرت الآلاف على الاستسلام، ما جنب سقوط ضحايا في أعداد لا تُحصى من العرب والأكراد.

على الأرض، نسقت “فرقة العمل 9” الهجمات والغارات الجوية، وقال عدد من المسؤولين إن الوحدة تضم جنوداً من المجموعة الخامسة للقوات الخاصة وفريق كوماندوز النخبة بالجيش “دلتا فورس”.

تحايل ممنهج

ومع مرور الوقت، بدأ بعض المسؤولين المشرفين على الحملة الجوية في الاعتقاد بأن “فرقة العمل 9” كانت تتحايل بشكل منهجي على الضمانات التي تم وضعها للحد من وفيات المدنيين، إذ كان من المفترض، وفقاً لتقرير “نيويورك تايمز”، أن تمر العملية بعدة ضوابط وتوازنات.

كانت الطائرات بدون طيار المزودة بكاميرات عالية الدقة تدرس الأهداف المحتملة لأيام أو أسابيع، ودأب المحللون على دراسة البيانات الاستخباراتية للتمييز بين المقاتلين والمدنيين، وتم ضم المحامين العسكريين إلى فرق الضرب، لضمان امتثال الاستهداف لقانون النزاعات المسلحة.

ولكن، بحسب الصحيفة، كانت هناك طريقة سريعة وسهلة لتخطي الكثير من هذه الإجراءات، وهي “الادعاء بوجود خطر وشيك”، إذ يسمح قانون النزاع المسلح (كتاب القواعد الذي يحدد السلوك القانوني للجيش في الحرب) للقوات في المواقف التي تهدد الحياة بتجنب محامي فريق الضربة والمحللين واستدعاء الضربات مباشرة من الطائرات بموجب ما تسميه اللوائح العسكرية “الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس”.

“دفاع عن النفس”

عادةً ما لعبت “فرقة العمل 9” دوراً استشارياً فقط في سوريا، وكان جنودها خلف الخطوط الأمامية. ومع ذلك، بحلول أواخر عام 2018، كانت حوالي 80% من الضربات الجوية “دفاعاً عن النفس”، وفقاً لضابط في القوات الجوية.

وقال الضابط في حديثه للصحيفة، إن القواعد سمحت للقوات الأميركية والحلفاء المحليين باستحضار “فرعة العمل 9” عند مواجهة ليس نيران العدو المباشرة فحسب، بل أي شخص يظهر “نية عدائية”.

كانت نتائج هذا النهج واضحة، إذ تحولت بلدات سورية عدة، بما في ذلك مدينة الرقة الاستراتيجية، إلى أنقاض.

وأفادت منظمات حقوقية أن التحالف تسبب في سقوط الآلاف من المدنيين خلال الحرب. تظهر المئات من تقارير التي فحصتها “نيويورك تايمز” بأن “فرقة العمل 9” متورطة في هجوم واحد من كل خمس هجمات للتحالف أسقطت ضحايا مدنيين في المنطقة.

دعاوى قضائية

بالمقابل، أصر التحالف علناً على أن أرقام الوفيات كانت أقل بكثير مما ذُكر، لكن شخصان قاما بتجميع التقارير قالا إنه على المستوى الخاص، أصبح التحالف غارقاً في حجم دعاوى الخسائر المدنية التي أبلغ عنها السكان المحليون والجماعات الإنسانية ووسائل الإعلام، فيما ظلت تقارير تقييم الخسائر المدنية من دون فحص لأشهر عدة.

وقال الضابط السابق في “فرقة العمل 9″، إنه حتى عند اكتمال تقييم تلك التقارير، لم تكن الفرق العسكرية التي تجري هذه التقييمات مجهزة لإجراء إحصاء دقيق، لأن الأفراد الذين يقومون بالعد لم يحققوا على الأرض، وكثيراً ما استندوا في النتائج التي توصلوا إليها إلى عدد الضحايا المدنيين عبر لقطات جوية للركام.

وقال تايت، الذي كتب تقريراً سرياً عن أوجه القصور في العملية، إن فرق التقييم كانت تفتقر أحياناً إلى التدريب، وبعضها لم يكن لديه تصاريح أمنية حتى لعرض الأدلة.

وقال ثلاثة مسؤولين، إن تقييمات عملية الضربات كانت معيبة أيضاً، لأن الوحدات التي استدعت الضربات هي التي أجرتها، ما يعني أن فرقة العمل كانت تصنف أدائها.

تحذير الـCIA

لم تكن جماعات حقوق الإنسان هي الوحيدة التي دقت ناقوس الخطر، إذ ازداد قلق الضباط العاملين في سوريا من ضربات “فرقة العمل 9” لدرجة أنهم أبلغوا المفتش العام في البنتاجون عن قلقهم، الذي حقق في تلك الادعاءات وأصدر تقريراً كانت نتائجه سرية للغاية، لكن ضابط “فرقة العمل 9” السابق، الذي راجع التقرير، قال إن التقرير خلص إلى أن جميع الضربات كانت قانونية، فيما امتنع المفتش العام عن نشر التقرير أو مناقشة نتائجه.

بات الموظفون في مركز العمليات في قاعدة العديد بقطر، الذين أشرفوا على الحرب الجوية، قلقين أيضاً من ضربات “فرقة العمل 9″، إذ بدأ محامو القوات الجوية في الاحتفاظ بجدول بيانات، وتسجيل مبررات الدفاع عن النفس التي استخدمتها تلك الفرقة في استدعاء الضربات، ثم مقارنتها مع لقطات الطائرات بدون طيار وغيرها من الأدلة.

ووفقاً لأحد الضباط الذين اطلعوا على البيانات، يبدو أن الأدلة تظهر أن “فرقة العمل 9” كانت تضيف تفاصيل من شأنها أن تبرر الضربة قانونياً، مثل رؤية رجل يحمل مسدساً، حتى عندما تكون هذه التفاصيل غير ظاهرة في اللقطات.

وقال الضابط لـ”نيويورك تايمز”، إنه على الرغم من أن عدداً من الضباط في مركز العمليات اشتبهوا في أن “فرقة العمل 9” كانت تضم معلومات مضللة في السجلات لتبرير الضربات، إلا أنهم لم يشعروا أن لديهم أدلة كافية للضغط على هذه القضية، لكن ذلك تغير في 18 مارس 2019.

ضربة قاتلة

وبالعودة إلى ضربة الباغوز، أشارت الصحيفة إلى أن مقاتلي “داعش” في تلك المنطقة كانوا قد تعهدوا بالقتال حتى الموت، بعد أن حوصروا لأكثر من شهر في ميل مربع واحد من الحقول الزراعية المحترقة.

وبين الخيام المؤقتة والمركبات المكسوة بالرصاص والمخابئ المحفورة يدوياً كان هناك عشرات الآلاف من النساء والأطفال، بعضهم كانوا هناك طواعية، لكن البعض الآخر لم يكن كذلك.

كانت خطة التحالف تقتضي بفرض حصار على أمل تجويع المقاتلين. وفي غضون 6 أسابيع، استسلم 29 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال، وفي 18 مارس، أظهرت لقطات مصورة بطائرة بدون طيار أن المخيم لا يزال يأوي أعداداً كبيرة من الأشخاص المشتبه في كونهم مقاتلين وعائلاتهم.

وقال الضباط، وفقاً لتقرير “نيويورك تايمز”، إن طائرات التحالف بدون طيار جابت المخيم على مدار 24 ساعة لأسابيع، وكانت تعرف كل بوصة تقريباً، بما في ذلك التحركات اليومية لمجموعات من النساء والأطفال الذين كانوا يتجمعون لتناول الطعام والصلاة والنوم بالقرب من ضفة نهر شديدة الانحدار توفر الغطاء لهم.

نقطة خلاف

في ذلك اليوم، شن مقاتلو “داعش” المحاصرون في المخيم هجوماً مضاداً قبل الفجر، وفقاً للقيادة المركزية التي أشرفت على “فرقة العمل 9”.

وقالت إن المئات من التنظيم بدأوا في إطلاق النار من البنادق وقاذفات القنابل اليدوية وإرسال مقاتلين إلى الأمام بسترات ناسفة، فقوبل هجومهم بقصف للتحالف بضربات جوية، وبحلول منتصف الصباح، كان قد استخدم التحالف جميع الصواريخ التي كانت على متن طائراته المسيرة. ولم يتبق في المنطقة سوى مسيرة واحدة تابعة لـ”فريق العمل 9″، وكانت غير مسلحة.

القيادة المركزية قالت حينها، إنه حوالي الساعة 10 صباحاً، أفادت الجماعات السورية المسلحة بأنها تعرضت لإطلاق النار، ودعت إلى شن غارة جوية، فتتبعت طائرة بدون طيار مجموعة من المقاتلين وهم يشقون طريقهم عبر المخيم إلى المنطقة التي تحتمي بها النساء والأطفال.

قال ضابط في “فرقة العمل 5” من مجموعة القوات الخاصة إنه نظر إلى لقطات الطائرة بدون طيار ولم ير أي مدنيين. لكن الطائرة بدون طيار التي اعتمد عليها لم يكن لديها سوى كاميرا ذات دقة متوسطة، وقالت القيادة المركزية إنه لا توجد طائرات بدون طيار عالية الدقة في المنطقة يمكنها الحصول على رؤية أفضل للهدف.

مشاهد متضاربة

فأعطى ضابط القوات الخاصة الأمر بإطلاق النار، وقالت القيادة إنه مع عدم وجود صواريخ دقيقة، استدعى القائد البري قنابل تزن 500 و2000 رطل، وتم تصنيف الضربة على أنها “دفاع عن النفس”.

لكن ما كشفه تقرير “نيويورك تايمز”، أنه كان هناك طائرة بدون طيار عالية الدقة، إلا أن “فرقة العمل 9” لم تستخدمها، وادعت القيادة المركزية بأن “فرقة العمل” لم تكن تعلم أن الطائرة بدون طيار عالية الدقة كانت تحلق في السماء.

سجلت الطائرة بدون طيار عالية الدقة مشهداً مختلفاً تماماً عما وصفته القيادة المركزية، وفقاً لما قاله ثلاثة أشخاص شاهدوا اللقطات.

وبحسب ما قاله الأشخاص، ظهر نحو ثلاثة رجال – وليس 16 – عبر الإطار يتجولون بالقرب من الحشد، وبحوزتهم بنادق لكن لا يبدو أنهم يناورون أو يشتبكون مع قوات التحالف أو يتصرفون بطريقة تبدو أنها تبرر ضربة للدفاع عن النفس بقنابل تزن 2000 رطل.

وما لا خلاف عليه هو أنه بعد لحظات من استدعاء “فرقة العمل”، ضربت طائرة هجومية من طراز F-15E المكان بقنبلة تزن 500 رطل، وبعدها بخمس دقائق، عندما رأت القوات البرية أشخاصاً يفرون من موقع الانفجار، أسقطت الطائرة “إف -15 إي” قنبلتين تزنان 2000 رطل على الناجين. استغرق الهجوم بأكمله 12 دقيقة.

تجاهل التحذيرات

وبحسب الصحيفة، تتطلب لوائح وزارة الدفاع الإبلاغ عن أي انتهاك “محتمل أو مشتبه به أو مزعوم” لقانون النزاع المسلح على الفور إلى القائد المقاتل المسؤول، وكذلك المحققين الجنائيين، وهيئة الأركان المشتركة، ووزير الدفاع ووزير الدفاع.

وبعد مشاهدة اللقطات، أمر محامي القوات الجوية العقيد كورساك، الوحدات المعنية بالحفاظ على 9 أدلة، وأبلغ قيادته بالضربة، وفقاً للرسالة الإلكترونية التي أرسلها لاحقاً إلى لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، كما أخطر قيادة المخاوف بأن الوحدة تبدو وكأنها تتستر على انتهاكات جرائم الحرب المزعومة، من خلال إضافة تفاصيل إلى سجل الضربات تبرر توجيه ضربة للدفاع عن النفس.

اجتاحت قوات التحالف المخيم في ذلك اليوم، وهزمت التنظيم بعد بضعة أيام، ما قاد إلى ترحيب كبير بالحرب الجوية التي استمرت لسنوات باعتبارها انتصاراً.

بالمقابل، وجد المراقبون المدنيون الذين وصلوا إلى منطقة الضربة في اليوم التالي أكواماً من جثث النساء والأطفال، ونشرت منظمة حقوق الإنسان “الرقة تذبح بصمت” صوراً للجثث ووصفتها بأنها “مجزرة مروعة”.

ونقل نقرير “نيويورك تايمز” عن ديفيد يوبانك، الجندي السابق في القوات الخاصة بالجيش الأميركي، والذي يدير منظمة “Free Burma Rangers”  الإنسانية، قوله في مقابلة، بعد أن سار عبر المنطقة بعد وقوع الحادثة بحوالي أسبوع: “المكان دُمر بسبب الغارات الجوية.. الأرض جُرفت، ورائحة الجثث النتنة تحتها، الكثير من الجثث.”

تم إصدار تقرير المفتش العام بشأن الخسائر المدنية في سوريا رسمياً هذا الربيع، لكن المكتب رفض الكشف عن نسخة عامة أو مناقشة النتائج السرية، مقراً بأنه لم يذكر ضربة الباغوز.

وقالت متحدثة باسم مكتب المفتش العام، إنه من المتوقع الانتهاء من تقييم جديد لالتزام قيادة العمليات الخاصة بقانون الحرب هذا الشهر، وسيشمل غارة الباغوز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى