التسليح الغربي لأوكرانيا

بهاء العوام

التسليح ثم التسليح ثم التسليح لأوكرانيا حتى تنتصر على روسيا.. هذا هو القرار الغربي في التعامل مع الحرب المشتعلة بين موسكو وكييف منذ نحو أحد عشر شهرًا.

وبغض النظر عن صواب الرؤية أو واقعية الأسباب لهذا القرار، لا يبدو الأمر سهلا، ولا في متناول اليد بالبساطة، التي تدّعيها بعض دول الناتو والاتحاد الأوروبي.

استقالة وزيرة الدفاع الألمانية قبل أيام كشفت الوجه الآخر لـ”العنتريات” الغربية في هذه الأزمة.. فلا يكفي أن تخصص مئة مليار دولار للإنفاق العسكري كي تدعم جيشك والجيش الأوكراني في آنٍ.. خاصة أن اقتصادات الغرب لا تعيش ازدهارا يفيض على شعوبه بالاستقرار، ويُكثر الأموال في خزائن حكوماته.

ثمة خمسة تحديات رئيسية تواجه التسليح الغربي لكييف، وتجعله يخضع لسياسة الأجل الطويل أو المتوسط على أقل تقدير.. وإطالةُ أمد الحرب الروسية-الأوكرانية هي أصلا غاية بعض دول حلف الأطلسي كي تزدهر صناعة السلاح فيها، وتبيع غازها بأسعار عالية لكل “محتاج” أو “معتكف” عن شراء الوقود الأزرق الروسي.

الكلفة المالية هي أبرز التحديات التي تواجه التسليح الغربي لأوكرانيا.. فصناعة السلاح مكلفة جدا.. وزيادة ميزانيات الدفاع في اقتصادات تعاني التضخم وتراجع النمو وانحسار الموارد، إما أن تأتي على حساب تقليص الإنفاق في قطاعات أخرى تمس حياة الناس، وإما عبر الاستدانة ومراكمة الديون على الدول، وبالتالي الشعوب.

في الدول الغربية تعتبر الضرائب موردا هاما للخزينة، وعندما تريد الدولة تعويض نقص مواردها تلجأ إلى زيادة الضرائب على الأفراد والشركات.. ولكن ماذا تفعل إن كان الناس يتظاهرون في الشوارع احتجاجا على كلفة الأسعار، ويعلنون إضرابا تلو الآخر للمطالبة بزيادة الأجور حتى يواكب دخلهم معدلاتِ التضخم المرتفعة؟

محاولة بسيطة من رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، ليز تراس، لتقليص الضرائب أسقطت حكومتها، وأخرجتها من السلطة بعد أقل من شهرين على وصولها إلى المنزل رقم عشرة.

أما خلَفُها، ريشي سوناك، فيستعجل إصدار قوانين توقف الإضرابات التي تقضُّ مضجعه ليل نهار، لأنه ببساطة لا يستطيع زيادة أجور أو خفض تضخم.

والكلفة في دعم أوكرانيا لا تقتصر على شراء أو تصنيع السلاح وإرساله إلى هناك.. وإنما تتضمن أيضا المساعدة المالية لإصلاح ما دُمّر وتَعطَّل من منشآت، وإطعام المتضررين في المدن التي يعلو فيها صوت القتال على كل شيء.. ناهيك بالكلفة الكبيرة المترتبة على احتواء دول الجوار الأوروبي للاجئين الفارين من أوكرانيا.

يتوقع مركز الأبحاث الأوكراني للاستراتيجيات الاقتصادية أن تصل قيمة الدعم الغربي المالي والعسكري واللوجستي لكييف إلى نحو مئة مليار دولار خلال العام الجاري، 40% منها تقريبا للجيش الأوكراني. فمَا الدول التي ستتقاسم هذه الكلفة؟ وهل يمكنها الوفاء بالتزاماتها مع تطبيق خطط النهوض باقتصاداتها المرهَقة؟

لنقُلْ إن دول الغرب تجاوزت عائق الكلفة واستخدمت أرصدة البنوك المركزية.. فماذا عن مدة تصنيع الأسلحة ذاتها؟ وهل يمكن أن يتخلى حلفاء كييف عن توازن مخازن جيوشهم من أجل صناعة ترسانة عسكرية أوكرانية تعيد العملية الخاصة الروسية إلى نقطة الصفر أو تؤدي إلى “خسارة” بوتين كما يقول مسؤولو بريطانيا؟

ثمة دول أوروبية تحتاج إلى تصنيع أسلحة لها قبل أوكرانيا.. وإذا أرادت أن تجعل نفسها منيعة في وجه “الأطماع” عموما، فعليها أن تمارس الأنانية في المُفاضلة بين احتياجاتها العسكرية واحتياجات الجبهة الأوكرانية.. لأن التوفيق بينهما قد يستعصي أحيانا، خاصة إن كانت فئة من الشعب لا ترى حربا تلوح في الأفق مع موسكو.

التحدي الثالث، الذي يؤخذ بعين الاعتبار في هذا الصدد، هو نوعية الأسلحة، التي قد تحوّل الدعم الغربي لكييف إلى مواجهة مباشرة مع موسكو.. فأوكرانيا في نهاية المطاف ليست عضوا في حلف الناتو ولا في الاتحاد الأوروبي.. وبالتالي لا بد من تجنب دفع روسيا نحو ما يصفها الكرملين “حالة الدفاع عن الوجود الروسي في العالم”.

هناك تخوفان آخران في هذا الشأن تواجههما دول الغرب كلما تحمّست لرفع سقف الدعم العسكري لكييف:

الأول هو مصير الأسلحة الأوروبية والأمريكية إنْ خرجت عن سيطرة الجيش الأوكراني.

والثاني هو كيفية حماية هذه الأسلحة من الصواريخ والقنابل الروسية التي لا تستعصي عليها بقعة على امتداد الأرض الأوكرانية.

وتدمير أسلحة الغرب في أوكرانيا لا يعني فقط خسارة الأموال، التي أنفقت على تصنيعها ونقلها، وإنما أيضا اهتزاز ثقة المهتمين بحيازة تلك الأسلحة على مستوى العالم.. فصناعة السلاح في بعض دول حلف شمال الأطلسي حامل من حوامل الاقتصاد الوطني، ولاعب أساسي في رسم السياستين الداخلية والخارجية لهذه الدول.

يبقى تحدٍّ واحد أمام تدفق السلاح إلى أوكرانيا، وهو تباين رؤى حلفاء كييف بشأن مستقبل الحرب ونهايتها.

صحيح أن جميع الدول الغربية تقف ضد روسيا في هذا النزاع المستمر منذ قرابة العام، ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أن بعض هذه الدول يستثمر في استمرار القتال، ويحاول تحقيق مكاسب مالية وسياسية وعسكرية على المدى الطويل.. في حين أن البعض الآخر يجني الأضرار فقط ويتمنى انتهاء الأزمة، اليوم قبل غد.

التباينات أيضا موجودة بين عدة دول في العالم والحلف الغربي ضد روسيا.. وهذه التباينات قد تنعكس على الميدان مع مرور الوقت.. فتجد موسكو من يؤيدها ويدعمها عسكريا، أو تثمر مساعي بعض الأطراف داخل حلف الناتو وخارجه في بلوغ وقف إطلاق نار طويل الأجل بين البلدين، يحوّل الأزمة لبركان خامد حتى إشعار آخر.

توماس جيفرسون، ثالث رئيس للولايات المتحدة، يقول “إنه من الصعب إيقاف رجل لديه عقلية صحيحة، أو مساعدة رجل بعقلية خاطئة”.. يصعب الحكم اليوم على عقلية طرفي الحرب الأوكرانية من خلال السرد الخاص بكل طرف للأزمة.. ولكن ما هو ممكن إلى حدٍّ بعيد، التمعن بحكمة وتعقل في التداعيات المحتملة لخوض عام ثانٍ من النزاع، الذي أحدث ثغراتٍ كبيرةً في النظام العالمي القائم منذ انتهاء الحرب الباردة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى