سياسات غربية انتهازية وراء التدهور الأمني العالمي

حميد الكفائي

يتوهم البعض عندما يتصور بأن سياسات الولايات المتحدة وباقي الدول الديمقراطية الغربية تتسم دائما بالعمق والبعد الاستراتيجي والتخطيط البعيد الأمد. الحقيقة أنها، في أحيان كثيرة، سياسات قصيرة الأمد تخدم مصالح آنية للزعماء والحكومات، التي تتغير حسب المزاج الشعبي والظروف السياسية والاقتصادية المتقلبة.

لو كانت السياسات الغربية عميقة دائما، وتعتمد على التخطيط الاستراتيجي لخدمة المصالح، لما رأينا التخبط الذي نراه حاليا في البحر العربي والبحر الأحمر، وباب المندب الذي يربطهما، وكيف أن هذه المنطقة الحيوية للتجارة العالمية، والإمدادات الضرورية للطاقة، قد أُهمِلت منذ عشرات السنين بالشكل الذي يتكشف أمامنا الآن.

الصومال التي تطل على البحر العربي وخليج عدن تتمزق منذ ثلاثة عقود ونصف، وتتحكم فيها جماعات مسلحة تمارس القتل والقرصنة، بينما الدول الغربية تتفرج، وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد. واليمن، الذي يطل على البحر العربي وباب المندب من جهة، والبحر الأحمر من جهة أخرى، هو الآخر يتمزق ويتدهور أمنيا وسياسيا واقتصاديا منذ عشر سنوات، والدول الغربية تتفرج وكأنها تعيش في عالم غير عالمنا.

بل عندما أدركت دول المنطقة الخطر الذي يحيق باليمن، وقررت دعم الحكومة الشرعية، جاءت إدارة بايدن لتصب الزيت على النار، محاولةً التقرب من الجماعات المسلحة، التي سيطرت على بعض مناطق اليمن، والتي كانت مدرجة على قائمة الجماعات الإرهابية العالمية، فأزالتها من تلك القائمة، متوهمة بأنها عندما تفعل ذلك، فإن تلك الجماعات سوف تتحول فجأة إلى جماعات مسالمة ومسؤولة وتتصرف وفق القانون الدولي!

أما السودان، الذي يمتد ساحله على البحر الأحمر على مسافة 750 كيلومترا، فتدور فيه معارك دامية منذ عشرة أشهر، ولم يقُم المجتمع الدولي بأي جهد يذكر، أو يتخذ إجراءً مؤثرا، لإيقاف الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أو إغاثة المدنيين المحاصَرين وسط المعارك.

والسودان ليس دولة هامشية، وإنما دولة كبيرة وثرية ولها موقع استراتيجي، وشعبها يتميز بالاعتدال والسلمية، وكان إلى عهد قريب يعتمد التعايش بين المختلفين أساسا للحياة، حتى دخله التطرف الديني الذي مزقه إلى دولتين حتى الآن، ويمكن أن يتوسع هذا التشرذم، إن لم يتدخل المجتمع الدولي لوقف القتال وتحقيق السلم.

ولا شك أن تدهور الوضع في السودان سوف يؤثر أيضا على الملاحة في البحر الأحمر، خصوصا إذا ما امتد الصراع ليشمل أطرافا أخرى، قد لا تكون مسؤولة ومنضبطة، كطرفي النزاع الحاليين، وهذا محتمل خصوصا إذا ما دخلت دول أخرى في الصراع. أما احتمالات أن يؤدي الصراع إلى تدفق اللاجئين على أوروبا، فهي تتزايد باستمرار، ويمكن أن تتفاقم مستقبلا، إن استمر النزاع لفترة طويلة.

الانقلابات العسكرية تتوالى في إفريقيا، والنفوذ الغربي يتراجع هناك، فتخبط السياسات الغربية في إفريقيا، منح العسكر مبررا للاستيلاء على السلطة، وهذا من شأنه أن يقود إلى مزيد من التدهور والعنف مستقبلا، فالحكومات العسكرية لا تجيد إدارة دولة عصرية، يطمح شعبها نحو التطور والرخاء والاستقرار.

ومنذ عشرين عاما، أعلنت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، أن كلا من إيران وكوريا الشمالية تعملان على تصنيع أسلحة نووية تهدد السلم العالمي، وحاولت إعاقة برنامجي البلدين عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو مجلس الأمن الدولي، ولكن دون جدوى. وكردٍ على المحاولات الغربية لإعاقة تطوير البرنامج النووي لكوريا الشمالية، قررت بيونغ يانغ عام 2003، الانسحاب من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وأجرت ست عمليات اختبار ناجحة لأسلحتها النووية، مبرهنة على خبرة وقدرة فائقتين، ولم تستطِع الدول الغربية منعها رغم أن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، هدد بـ”تدمير كوريا الشمالية” في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2017.

أما إيران، التي استمرت في تطوير برنامجها النووي، الذي تدعي بأنه للأغراض السلمية، باعتبار أنها موَقِّعة على اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية منذ عام 1970، فقد تجاهلت كل الضغوط التي مورست عليها وواصلت العمل على تطوير برنامجها النووي ومشروع صناعة الصواريخ البالستية، الأمر الذي دفع الدول الغربية لاستصدار قرار من مجلس الأمن عام 2006 يطالبها بتعليق برنامجها النووي، ما دفعها إلى الدخول في مفاوضات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والسماح للمفتشين بزيارة المواقع النووية، وعقدت اتفاقا دوليا عام 2015، لكنها في الوقت نفسه واصلت عملية تطوير البرنامج.

وبعد صخب غربي ومفاوضات عسيرة حول البرنامج النووي الإيراني، وجولات تفتيش عديدة قامت بها وكالة الطاقة الذرية للمواقع النووية الإيرانية، صمت الجميع فجأة وصار البرنامج النووي الإيراني نسيا منسيا، ولم يعد خطرا على السلم العالمي!

ومنذ السابع من أكتوبر من العام الماضي، تواصل إسرائيل قصفها العشوائي للأهداف المدنية والمباني السكنية في غزة، ولم تستثنِ المستشفيات والمدارس والملاجئ، متسببة في قتل حوالي 25 ألف مدني، معظمهم من النساء والأطفال، وجرح 50 ألفا آخرين، وتهجير مليوني شخص من منازلهم، في انتهاك صارخ للقانون الإنساني الدولي، بينما فشل العالم الغربي في أن يوقفها أو يصدر قرارا من مجلس الأمن يدين أفعالها، حتى وإن كان ضمن الفصول غير الملزِمة.

ومن الجدير بالذكر أن الأراضي الفلسطينية، في الضفة الغربية والقطاع، تعتبر أراضي محتلة في نظر المحكمة الجنائية الدولية، وأن أفعال إسرائيل فيها تخضع لسلطة المحكمة الجنائية الدولية منذ عام 2021، لأن السلطة الوطنية الفلسطينية موقعة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، وهذا ما صرح به أحد أهم مؤسسي المحكمة الجنائية الدولية، القاضي لويس مارينو أوكامبو، في مقابلة بثها تلفزيون بي بي سي في أكتوبر الماضي.

من الواضح أن ما تفعله إسرائيل في غزة وباقي المناطق الفلسطينية المحتلة، يلحق أضرارا هائلة بسمعة الولايات المتحدة والدول الغربية عموما، ويضعف ثقة العالم أجمع بها، ويعري ادعاءاتها بالالتزام بالقانون الدولي وسعيها لتفعيل مواثيق حقوق الإنسان، والترويج للديمقراطية وحكم القانون، خصوصا وأنها إما تدعم إسرائيل، سياسيا وعسكريا، أو صامتة إزاء أفعالها الشنيعة في غزة.

ولا شك أن أضرارا سياسية واقتصادية سوف تلحق بالدول الغربية نتيجة لهذه المواقف التي تتناقض مع قوانينها ومدعياتها، لكنها، رغم علمها بالأضرار المترتبة على تخاذلها عن ردع إسرائيل، لم تستطع، منفردة أو مجتمعة، أن تنقذ سمعتها وتنتصر للقيم التي تنادي بها منذ مئة عام، باتخاذ خطوات عملية لإيقاف الانتهاكات والاعتداءات الصارخة على المدنيين.

غير أن جنوب افريقيا، الدولة المتواضعة القوة والحجم، التي تحررت من نير التمييز العنصري قبل ثلاثين عاما فقط، والتحقت بالعالم الديمقراطي والدول الراسخة، امتلكت الشجاعة لأن تتخذ خطوة مهمة لوضع حد للجرائم التي ترتكبها حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة، ضد الإنسانية في الأراضي الفلسطينية.

الضمائر النابضة بالعدالة والإنصاف كثيرة في هذا العالم، وهناك حركة حقوقية ثقافية عالمية آخذة في التوسع سريعا، وهذه الحركة سوف تغير الوضع الحالي البائس بمرور الزمن، وقد بدأت مواقف الحكومات الغربية تتغير، وتتحرر من هيمنة الجماعات اليمينية. هذه الحركة تستحق الدعم عبر التفاعل الإيجابي معها، أما ردود الأفعال الغاضبة وأعمال العنف فهي تقدم مبررا للجماعات العنصرية لمواصلة نهجها.

البعض في مجتمعاتنا يتوهم بأن الحل يكمن في اتخاذ مواقف متشنجة ومتطرفة تتسم بالعنف وردود الأفعال الغاضبة، وينسى أن هذه المواقف لم تنفعنا سابقا، بل ساهمت في مفاقمة مشاكلنا، وهي لم تنفع غيرنا ممن جربوها، فعادت عليهم بنتائج سلبية. المطلوب هو اتخاذ المواقف الصحيحة المبنية على العقلانية، واتباع سياسات مدروسة، والتفاعل الإيجابي الهادئ مع دول العالم المختلفة، عبر الإقناع وتبيان الحقائق، من أجل كسب مواقفها لصالح القضايا العادلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى